أثر الحج في بناء الإنسان والمجتمع
|
*محمد طاهر محمد
"وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*" (الحج 27/28) .
أي دعوة أشرف من هذه الدعوة وأي نداء أقدس من هذا النداء وأي نعمة أوفر من هذه النعمة، أجل لا شيء أسبغ من هذه الرحمة الإلهية على العبد حينما يدعوه سبحانه وتعالى الى ضيافته فيغمره بفضله ويأمنه في بيته، وطوبى للعبد وهو ينعم بهذه الآلاء عندما يجيب هذه الدعوة في قدومه من فج عميق ملبياً نداء الحق تعالى ومستجيباً لأمره يبتغي بذلك القربة اليه والمنزلة لديه والمغفرة منه في البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً مباركة وهدى للعالمين.
* السمو في طاعة الله
فالحج يمثل أعلى مراحل التوحيد ونفي الشرك، وفضلاً عن الاخلاص في العبودية لله تعالى فهو مليء بالدروس والعبر التي يستلهمها المسلم لبناء الجانب المعنوي في حياته، والمتأمل في هذه الدروس يجد فيها المعنى السامي والهدف الرفيع الذي من اجله فرض الله تعالى على المسلم هذه الفريضة الشريفة ونجد في خطبة أمير المؤمنين (ع) ما يوضح هذه الدروس التي تغذّي المسلم تغذية روحية عندما يقول: (وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الانعام ويألهون اليه وله الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعكم لعظمته، واذعانكم لعزته، وأختار من خلقه سماعاً اجابوا اليه دعوته وصدقوا كلمته، و وقفوا مواقف انبيائه، وتشبهوا بملائكته المطوفين بعرشه، يحرزون الارباح في متجر عبادته ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للاسلام علماء وللعائذين حرماً، فرض حجه، وأوجب حقه، وكتب عليكم وفادته فقال سبحانه، ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً).
ويتضح من خلال هذه الكلمات لأمير المؤمنين (ع) معنى سامياً في الحج وهو أن الله سبحانه وتعالى يريد للمسلم ان يرتقي في تواضعه لعظمة الله ويسمو في اذعانه لعزة الله فهو عندما يقف في ذلك الموقف فأنه يتشبه بالانبياء والملائكة فلا يفكر في تجارة سوى عبادة الله ومغفرته ورضوانه فهو في حرم الله وأمنه.
وهناك معنى آخر من معاني فرض الحج تطرق اليه أمير المؤمنين (ع) في بعض كلماته حينما قال:(فرض الله الايمان تطهيراً من الشرك والصلاة تنزيهاً عن الكبر والزكاة تسبباً للرزق والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق والحج تقوية الدين).
ولا يخفى هنا المعنى العظيم للحج حيث ان قوة المسلمين والدين تكون في توحدهم وتكاتفهم وهذا ما يعطيهم الهيبة في نفوس اعدائهم وهو ما يتحقق في الحج فضلاً عن ما يتحقق من خلال اجتماعاتهم من التآلف ونبذ الفرقة والعمل على جمع الصفوف.
وهذا المعنى تطرقت اليه السيدة فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها عندما قالت: وفرض عليكم الحج (تشييداً للدين) ونجد هذا المعنى يتجسد في قول الامام الصادق (ع) ايضاً في قوله: (لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة).
وقد اكدت الاحاديث الشريفة للنبي الاكرم (ص) والائمة الطاهرين على اهمية الحج كونه يمثل احدى دعائم الاسلام الخمس وهي الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج والولاية لأهل البيت كما في قول الامام الباقر (ع): "فترك الحج عند الاستطاعة نظير ترك الصلاة أو الزكاة أو الصوم".
*الآثار المترتبة
وقد حرصت الآية الكريمة على منزلة هذه الفريضة عند الله وبيّنت ما يؤول اليه مصير من تركها بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً ومن كفر فأن الله غني عن العالمين).
وفي الكافي سأل علي بن جعفر أخاه الامام الكاظم (ع) عن قوله تعالى: (ومن كفر) قال، قلت: ومَن لم يحج منّا فقد كفر؟ قال (ع): (لا، ولكن من قال ليس هذا فقد كفر)، وهناك الكثير من هذه الاحاديث يجدها القارىء في المصادر المعتبرة تدلنا على مدى تأكيد النبي (ص) والائمة في فضل هذه الفريضة كما يجد القارىء الكثير من الاحاديث في فضل الحاج وثوابه منها ما روي عن الصادق (ع): (ودّ مَن في القبور لو ان له حجة واحدة بالدنيا وما فيها) كما وردت الكثير من الاحاديث في الآثار والفوائد الدنيوية والاخروية للحج منها قول الرسول الاكرم (ص) في خطبة يوم الغدير (معاشر الناس حجّوا البيت، فما ورد اهل البيت إلا استغنوا، ولا تخلفوا عنه إلا افتقروا) وعن أمير المؤمنين (ع): (وحجّ البيت واعتماره فأنهما ينفيان الفقر ويرخصان الذنب)، والرخص يعني الغسل.
وعن الامام الصادق (ع): (الحج والعمرة سوقان من اسواق الآخرة، اللازم لهما في ضمان الله ان ابقاه اداة الى عياله وإن أماته ادخله الجنة) وعن الامام الرضا (ع): (ما يقف احد على تلك الجبال بر أو فاجر ألا استجاب الله له، فأما البر فيستجاب له في آخرته ودنياه، وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه).
كما توجد روايات كثيرة على لسان المعصومين عليهم السلام في الآثار المترتبة على ترك الحج وما يؤدي ذلك من عواقب وخيمة فعن الصادق (ع) انه قال: (من مات ولم يحج حجة الاسلام ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانياً) فالحج من اهم العبادات التي يتقرب بها الانسان الى خالقه ويصل الى ساحة قدسه، والسفر الى الحج هو السفر الى الله تعالى للوقوف بين يدي عظمته والدخول في ضيافته في بيته الذي جعله باباً لرحمته، فمن دخله كان من الآمنين وقد ورد عن النبي الاكرم (ص): (الحجاج والعمار وفد الله يعطيهم ما سألوا ويستجيب دعاءهم ويخلف نفقاتهم).
وعن امير المؤمنين (ع): (الحاج والمعتمر وفد الله وحق على الله تعالى ان يكرم وفده ويحبوه بالمغفرة) وعنه (ع) ايضاً: (ان رسول الله (ص) لما حج حجة الوداع وقف بعرفة واقبل الناس فقال: (مرحباً بوفد الله - ثلاث مرات- الذين ان سألوا اعطوا، وتخلف نفقاتهم، ويجعل الله لهم في الآخرة بكل درهم الفاً من الحسنات).
وتعلّمنا احاديث الائمة المعصومين (ع) آداب الحج وشروطه ومن هذه الشروط الاخلاص في الحج فقد ورد في ثواب الاعمال عن هارون بن خارجة عن الامام الصادق (ع) انه قال: (الحج حجّان حج لله وحج للناس فمَن حجّ لله كان ثوابه على الله الخير ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة).
وفي نفس المصدر عنه (ع) ايضاً انه قال: من حجّ يريد الله عزوجل لا يريد به رياء ولا سمعة غفر الله له البتة، كما تدلنا احاديثهم (ع) ووصاياهم على ما يجب ان يكون عليه الحجاج من كمال شروط الحج وان يأخذ بالوظائف القلبية التي تشترط بالحاج ومنها شرط الولاية ففي الكافي عن الامام الصادق (ع) انه نظر الى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية انما أُمروا ان يطوفوا بها، ثم ينفروا الينا فيُعلمونا ولايتهم ومؤدتهم ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ الآية: "فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم".
وروى الصدوق في علل الشرائع عن ابي حمزة الثمالي قال: دخلت على ابي جعفر (ع) وهو جالس على الباب الذي يلي المسجد الحرام وهو ينظر الى الناس يطوفون فقال: يا أبا حمزة بما أُمروا هؤلاء؟ قلت: لا أعلم، فرد عليه وقال: انما أُمروا ان يطوفوا بهذه الاحجار فيعلمونا ولايتهم.
*الإمام الحسين (ع) و عرفة..
مع ما مرّ من جملة الأحاديث والروايات المؤكدة على أهمية الحج كفريضة عبادية و سبيل الى الله سبحانه وتعالى، ومناسبة لتهذيب النفس وتكامل الشخصية الإيمانية، فاننا أمام درس عملي في عروج النفس والتقاء المعارف والقيم والمفاهيم التي جاء بها الاسلام في دعاء يُقرأ في يوم عرفة وفي الساعات التي يقف فيها الحجيج على جبل عرفة، منذ ارتفاع الشمس في التاسع من ذي الحجة، لكنه ليس كأي دعاء، لأنه صدر من شخصية تمثل إشعاعاً من النبوة والرسالة السمحاء، إنه الإمام الحسين سيد الشهداء (ع).
فقد نقل المحدث الشيخ عباس القمّي (طاب ثراه) في مفاتيحه، عن الكفعمي في (البلد الأمين) ما صورته: روى بشر وبشير ابنا غالب الأسدي، قالا: كنّا مع الحسين بن علي (عليهما السلام) يوم عرفة فخرج من فسطاطه خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هونا، حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته و ولده في مسيرة الجبل مستقبل البيت الحرام ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستعظام المسكين، ثم قال: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صنع صانع وهو الجواد الواسع....) الى آخر الدعاء المعروف، الذي يحمل كل معاني الخضوع والخشوع الى الله والشكر والحمد له تعالى على نعمائه وآلائه.
وعندما يحرص المؤمنون كل عام على تجشم عناء السفر من كل حدبٍ وصوب نحو مرقد سيد الشهداء (ع) في مدينة كربلاء المقدسة لتكرار تلك الكلمات المضيئة والسامية، في ظهيرة يوم عرفة، إنما يسعون لبلوغ المرتبة السامية التي قصدها الإمام الحسين في دعائه العظيم، ولذا نجد التأكيد والحثّ في روايات المعصومين في فضل الحضور عند مرقد سيد الشهداء (ع) في هذا اليوم لينال الزائر فضيلة وثواب وقوف الحاج على جبل عرفة، وإذا ألقينا نظرة على التأكيدات المروية عن الأئمة الأطهار على إحياء ليلة ويوم عرفة عند مرقد الإمام سيد الشهداء، سنعرف أن تضييع فرصة قراءة دعاء الإمام والإيتان ببقية الأعمال المندوبة يُعد خسارة كبيرة لا تعوّض إلا اذا كتب الله تعالى لنا عمراً الى السنة القادمة.
|
|