الولاية التكوينية للمعصومين ومصدر القدرة
|
*طلال عبد الصاحب
من المهم جداً لكل مسلم متديّن تقوية ايمانه بالتوحيد كأحد اصول الدين الحنيف، لكن المهم ايضاً، البحث عن السبل الكفيلة لتحقيق هذه الغاية العقائدية التي طالما انشغل بها المسلمون بحثاً ونقاشاً ودراسةً، فمنهم من اقترب الى الهدف، ومنهم من التبس عليه الامر، فهو يتحدث عن التوحيد، فيما فهو يشرك به سبحانه وتعالى ليكون مصداق الآية الكريمة: "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا". (الكهف /104).
كل الدلائل والشواهد العلمية تؤكد ان مدرسة أهل البيت عليهم السلام، هو الباب الوحيد الذي يمكننا ان نعمق ايماننا بالله الواحد الأحد، القادر المتعال، وانه تعالى قادر على فعل كل شيء بحكمته ورحمته، ومن علائم القدرة الإلهية وجود الولاية التكوينية لدى نبيه الأكرم والأئمة المعصومين من بعده صلوات الله عليهم. علماً ان بعض علماء المذاهب الاسلامية أثاروا شكوكاً حول هذا المفهوم، او صحته بالاساس، واصفين المسألة بانها نوعاً من الشرك بالله تعالى، ويسألون: كيف تكون استجابة الدعاء حسب مفهوم (الشفاعة) لدينا، عند النبي الاكرم واهل بيته ولا تكون لله تعالى وحده... والقرآن الكريم يقول: "ادعوني استجب لكم"...؟!
القدرة التكوينية إلهية وليست ذاتية
إن الولاية التكوينية بإيجاز، عبارة عن سلطة وقوة خاصة يمنحها الله لبعض أوليائه، وبهذه القدرة والقوة يستطيعون أن يتصرفوا في الكون تصرفاً خارقاً للعادة. لكن هل بالأساس شيء في هذا الكون خارج عن عطاء الله سبحانه وتعالى، وبغض النظر عن الأشياء الخارقة للعادة؟ كلا، حتى الأشياء العادية التي نشاهدها كل يوم لن تكون خارجة عن عطاء الله سبحانه وتعالى.
مثال على ذلك؛ ميلاد البرتقالة في شجرتها، فهل هذا بمعنى ان الشجرة هي التي تعطينا البرتقالة، أم ان الله تعالى هو الذي يعطينا البرتقالة عبر هذه الشجرة؟ كذلك الحال عندما نقوم بأية حركة بدنية، فهل يتم ذلك بقدرة ذاتية؟ وهل يمكن للانسان المؤمن أن يتوهم هذا المعنى؟ كلا، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا هذه القدرة ولم يعط هذه القدرة لبعض الناس لذلك فهم لا يتمكنون من الحركة، مثال ذلك الانسان الذي يولد وهو مكفوف البصر او أصم أو غير ذلك، وهذه الحقيقة يبينها القرآن الكريم في سلسلة تساؤلات مثيرة حيث يقول: "أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ" وفي آية أخرى من (سورة الواقعة): "أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ". فالانسان هو الذي يحرث ويسقي، لكن خروج الثمر والزرع فهو على الله تعالى. كذلك الحال بالنسبة للشفاء من الامراض والحصول على الطعام وجميع نواحي الحياة.
فإذا قلنا إن للنبي الاكرم والأئمة الاطهار صلوات الله عليهم، قدرة تكوينية فهذا لا يعني ان لهم قدرة تكوينية بذاتهم، إنما الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطاهم هذه القدرة، فالولاية التكوينية لا تعني جعل المعني شريكا لله سبحانه وتعالى.
المصاديق على الارض
فيما مضى، كان في اطار نظري، لكننا بحاجة الى مصاديق عملية وحالات ملموسة على الارض، حتى "ليطمئن قلبي"، والبعض يشكك في امكانية وقوع هكذا أمور، كأن يستجاب الدعاء عند أحد أضرحة المعصومين والاولياء الصالحين، او تحصل معجزة معينة بالتوسل والتشفع عند أحد أولياء الله تعالى...
من الناحية العلمية اذا اردنا تحليل ظاهرة معينة لنعرف هل أن هذا الشيء ممكن أم محال؟ ممتنع أم غير ممتنع؟ فإذا انتهت القضية إلى كونها قضية عقلية مستحيلة، يكون الامر مستحيلا، أما إذا لم تنته إلى هذه النتيجة، فلا يكون الامر مستحيلا، وإنما يكون ممكناً، بمعنى إذا انتهت القضية إلى اجتماع النقيضين فهذا محال، وإذا انتهت القضية إلى ارتفاع النقيضين فهذا محال أيضا وإذا انتهت القضية إلى اجتماع الضدين كذلك هذا محال، وإذا انتهت القضية إلى ارتفاع الضدين الذين لا ثالث لهما فهذا محال ايضا، وإذا انتهت القضية إلى نفي قانون الذاتية فهذا محال كذلك، أما إذا لم تنته إلى هذه المحالات العقلية، فلماذا يكون محالا؟ وما هو وجه الاستحالة في ذلك؟ ولماذا يستغرب الانسان ذلك؟ لهذا كان ابن سينا يقول: (كلما طرق سمعك من غرائب الزمان فذره في بقعة الإمكان).
والحقيقة فإن انكار تحقق الامور الممكنة يُعد أحد علائم الجهل والتنكر للعلم، وطالما يدّعي الناصبون العداء لأهل البيت عليهم السلام العلمية وانهم يعارضون الخرافات والتضليل، وهم متوغلون فيه وما يشعرون.
واذا اردنا مصاديق للولاية التكوينية التي منحها الله تعالى لمخلوقاته، فيمكننا الاشارة الى أبعد ما يتصوره الانسان من خلق الله تعالى وهو الجماد، وليس فقط الانسان او الحيوان، والذي يفقتد للمشاعر والاحاسيس التي لدى الكائنات الحيّة الاخرى، فبعض الجماد منحه الله تعالى مقاماً تكوينياً ، بل وسلطة تكوينية، والدليل هو القرآن الكريم: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ" (النحل /69)، فإذا كان للعسل القدرة العجيبة على الشفاء من عديد الامراض التي يكتشفها العلم حالياً، أو اذا كان للمطر تلك القدرة التي تقول عنها الآية الكريمة: "فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ" (البقرة /22)، فلماذا نستبعد ان اعطاء هكذا سلطة و ولاية تكوينية لانسان مقرّب ومصطفى من قبل الله تعالى؟
طبعاً هنالك أمثلة عديدة وكثيرة في حياتنا، يكفي الانسان ان يجيل بنظره لما حوله، ليجد ان كثيرا من الاشياء لها ولاية تكوينية على أشياء اخرى، فالاشجار المخضوضرة لها سلطة على الهواء الذي نستنشقه، فتسحب منه الكاربون نهاراً وتعيد له الاوكسجين، وفي الليل نجد القمر البعيد عنّا في كبد السماء له تلك الفاعلية التكوينية عندما يحدث عمليات المد والجزر في البحار، كذلك نجد هذه الولاية للشمس والرياح وغيرها.
ولمن يبحث عن تطبيق عملي للولاية التكوينية التي يمنحها الله تعالى ليس فقط لنبي، وإنما لغير النبي ايضاً: فما عليه إلا ان يقرأ القرآن الكريم في قوله تعالى: (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل /39-40)، فالذي كان الى جانب نبي الله سليمان وقال اني لي علم من الكتاب لم يكن نبياً، إنما كان وصي نبي، لكن كان يمتلك هذا العلم الذي جاء من به من عند الله تعالى، ومن خلال القدرة الإلهية المطلقة، جاء هذا الوصي بعرش (بلقيس) ملكة سبأ ووضعه أمام سليمان بين إغماضة عينه وفتحها، أي خلال ثوان معدودة، ولذا عندما رأى نبي الله سليمان العرش ماثلاً امامه قال في سياق نفس الآية: "هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ".
في الحديث عن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه عليه: (ان لله تعالى الاسم الأعظم وهو كما في هذه الرواية مكون من ثلاثة وسبعين حرفاً. وكان عند (آصف بن برخيا) حرفا واحدا من الاسم الأعظم المكون من ثلاثة وسبعين حرفا، وبهذا الحرف الواحد كانت عنده تلك القدرة الغيبية العجيبة، فتكلم بذلك الحرف فخَسف أو خُسف ما بينه وبين سرير بلقيس، وطوى الله له المكان ثم تناول السرير او تناول ذلك العرش بيده ووضعه أمام سليمان ثم عادت الأرض كما كانت) (الكافي /ج1- ص230). وهذا يسمى طيّ للمكان، كما هنالك طيّ للزمان كما حصل لعديد أولياء الله الصالحين وهو أمر مجرب وموثق في فترات ليست بالبعيدة.
وفي رواية عن الامام الباقر عليه السلام فان الله تعالى اختص لنفسه حرف واحد وهو الحرف الثالث والسبعون من الاسم الاعظم، وكان لدى عيسى عليه السلام حرفان منه، كما كان عند آصف حرف واحد، أما إبراهيم صلوات الله عليه فكان عنده ثمانية حروف من الاسم الأعظم، أما نحن – يقول الامام الباقر- فعندنا من الاسم الأعظم اثنان وستون حرفاً. 1
وفي رواية اخرى عن الإمام الصادق صلوات الله عليه: (يا أبان - وهو احد أصحابه- كيف ينكر الناس هذه الفضيلة لأمير المؤمنين – في اشارة منه الى طيّ المكان- ولا ينكرون تناول آصف وصي سليمان عرش بلقيس وإتيانه قبل أن يرتد إليه طرفه؟ فكيف لا يقدر أمير المؤمنين على ذلك في حين يقدر آصف على ذلك وهو وصي سليمان، أليس نبينا أفضل الأنبياء و وصيه أفضل الأوصياء؟ أفلا جعلوه كوصي سليمان على الأقل...) 2
وفي رواية أخرى، يقول ابو حمزة الثمالي للإمام السجاد صلوات الله عليه: أ يتمكن الأئمة أن يحيوا الموتى ويبرؤوا الأكمه والأبرص، كما كان عيسى صلوات الله عليه يفعل ذلك، ويمشون على الماء...؟! فقال الإمام صلوات الله وسلامه عليه: ما أعطى الله نبيا شيئا قط إلا وأعطاه محمدا صلى الله عليه وآله. بمعنى ان جميع معاجز الأنبياء السابقين منحها الله سبحانه وتعالى لخاتم الأنبياء وأعطاه ما لم يكن عندهم. أي أعطاه أشياء لم تكن موجودة عند الأنبياء، قلت: وهل كل ما كان عند رسول الله فقد أعطاه أمير المؤمنين صلوات الله عليه؟ قال: نعم انتقلت
هذه القدرة إلى أمير المؤمنين ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم من بعد كل إمام إمام إلى يوم القيامة3 .
من هنا نقول: اذا لجأ مسلم الى النبي الأكرم او أهل بيته المعصومين او حتى الى أحد اولياء الله الصالحين، بالدعاء والتوسل والشفاعة الى الله تعالى في قضاء حوائجه، فهو بالحقيقة يوحد الله تعالى، لأنه يعترف بانه تعالى بيده القدرة والولاية المطلقة لتصريف الامور. لكن هذه هي حكمة البارئ عز وجل حيث قال: "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" (الاسراء /57). وعليه نعرف ان الشفاعة والتوسل الى أولياء الله تعالى ليست مسألة عاطفية او من التقاليد الاجتماعية، إنما تستند على مفهوم عقائدي راسخ مدعوم بالأدلة والبراهين، وهو بالنتيجة يقرب المسلم والمؤمن أكثر فاكثر الى الله تعالى من خلال أوليائه عندما يذكرهم ويبحث عن سيرتهم واحكامهم، واليوم بين ظهرانينا الامام الحجة المنتظر وهو الامام المعصوم المغيّب عنّا والحاضر دائماً بيننا، فهو صلوات الله عليه ناظر على كل اعمالنا وتحركاتنا، فالتوسل به والتمسك بحبله يجعلنا على صلة دائمة بالسماء حيث نعمق الايمان بالله تعالى اكثر ونجدد الولاء لمن انتخبهم واصطفاهم لأداء رسالته السمحاء.
الهوامش:
1- راجع : الحق المبين في معرفة المعصومين : علي الكوراني العاملي : ص 355 .
2- الاختصاص : الشيخ المفيد : ص 213 .
3- بصائر الدرجات : محمد بن الحسن الصفار : ص 290
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------
|
|