قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

فلسفة الولاية والطريق نحو العقائد الصحيحة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
قبل أن يلتحق رسول الله صلى الله عليه وآله بالرفيق الاعلى، خطب خطبة شهدها أغلب المسلمين وسجلها الرواة بأسانيد مختلفة وتعابير متقاربة ومتشابهة، حدد فيها ما سيخلفه في المسلمين من شريعة وعقيدة، فقد روى (مسلم) في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله فينا خطيباً... وذكر خطبة النبي صلى الله عليه وآله حيث قال : أما بعد أيها الناس إنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، واني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه النور فخذوا بكتاب الله... إلى أن قال: وأهل بيتي). و روى (ابن داوود) في صحيحه وكذلك (الترمذي) بأسنادهما المعروف عن رسول الله صلى اللـه عليه وآله أنه قال: (إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض، وعترتي أهل بيتـي لن يفترقـا حتى يردا عليّ الحوض، فأنظروا كيف تخلفونـي فـي عترتـي)؟
ومن اجل ان نعرف هل لنا فلسفة خاصة بنا تجعلنا بمنأى عن الفلسفات البشرية الموضوعة؟ أم اننا نكتفي بالتشريع والاحكام ونستند بفلسفتنا في الحياة على نتاجات هذا وذاك؟ لابد ان نقف على ابعاد هذا الحديث النبوي العظيم والمتواتر.
صحيح ان احكام الحلال والحرام والصلاة والصيام وسائر العبادات وايضاً القيم الاخلاقية تعد جزء من عقيدتنا، لكنها تبقى من الفروع، اذ ليس من شأنها ان تنظم سلوك وحياة الانسان، فـ (الصلاة عمود الدين)، انه حديث شريف وشعار مقدس، لكن لن تكن ذات فائدة من دون قاعدة ايمانية، بل تتحول الى حركات رياضية وحسب، وكذلك الحال بالنسبة للخمس والزكاة والحج. بل وحتى القيم الاخلاقية ومفردات من قبيل الصدق والامانة والوفاء وغيرها، لابد لها من رؤية وبصيرة شاملة للحياة، لذا لانجد بين بني البشر من يختلف حول ايجابية هذه المفردات وغيرها، فحتى الطاغية والظالم يعاقب على الخيانة ويستنكر الكذب. من هنا جاء تأكيد النبي الاكرم صلى الله عليه وآله على العترة وجعلها صنواً للكتاب المجيد الذي يحمل كلام البارئ عزّوجل، واصفاً اياهما بـ (الثقلين)، فهو صلى الله عليه وآله يريد ان يبين لنا ان الهدف من (الثقلين) ليس مجرد إقتباس الاحكام الشرعية فحسب، وإنما إستلهام المعارف الالهية والرؤى الكونية، وإستنباط الثقافة السليمة الصحيحة تجاه الحياة.
كيف يتم ذلك؟
الولاية .. القاعدة الايمانية
لقد أكد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله في اكثر من مناسبة على إستمرار نهجه، وعلى إتباع سيرته وأفعاله وممارساته، لانه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الى الله "وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيراً"، فالدعوة ليست للصلاة فقط، بل وبالنسبة الى الكون بأكمله أيضاً، ولانه بعث ليتلو آيات الله تعالى وليزكي النفوس ويعلمهم الكتاب: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" (الجمعة/2)، فتزكية النفوس وتعليم الكتاب هي من أهم مسؤوليات الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الاطهار من بعده، ليخرج الناس من الرؤى المعكوسة للحياة، إذ لو كانت رؤية الانسان للحياة معكوسة، ولا يرى فرقاً بينه وبين الحيوان، أو كان دهرياً لا يرى وراء هذه الدنيا عالماً آخر، وأنها هي نهاية المطاف ونهاية الطبيعة، أو كان الانسان منكراً للحقائق العقائدية، فلا يرى للجزاء وجوداً؛ فلا معنى حينها لصلاته ولا تنفعه زكاة ماله وما أشبهها.
إذن؛ الاعتقاد بولاية أهل البيت عليهم السلام هو الاعتقاد بنهجهم وسيرتهم في الحياة، وبمعنى موالاتهم في رؤاهم وبصائرهم، اذ إن توجيهاتهم وأحاديثهم عليهم السلام لم تكن منحصرة في الفروع، تماماً كتوجيهات وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله، بل الفروع لم تكن تشكل إلاّ جزءاً يسيراً من أحاديثهم، أن الغالبية العظمى من كلماتهم عليهم السلام ، إنما كانت تدور حول العقائد، وحول التوجيه الى الله تعالى، وتفسير الخلقة، وبيان الكون، وبيان طبيعة الانسان، ثم بيان الاخلاق الحسنة والتوجيه الى الآخرة وبيان فلسفة الآخرة وبيان حكمة الخلق، الى غير ذلك من البصائر المتجلية في كلام وسيرة الرسول الاعظم والأئمة من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
لو يسأل الموالي لأهل البيت نفسه عن حقيقة ولائه لهم، سيجد بلا ريب أن موالاته لهم لم يكن لمجرد أنهم أهل بيت النبوة فحسب، بل لعله - وحين يتجرد عن عواطفه ويرجع الى حقيقته - سيجد أنه أنما يواليهم ويحبهم لأنه يجد فيهم مناراً له في حياته، وعنواناً يبحث عنه ليعنون هويته الاسلامية، ومن هنا - وإذا كنّا من موالي أهل البيت عليهم السلام ومن شيعتهم - لا بد وأن نبحث في كلماتهم المضيئة، إذ الولاية لا تتحقق بمجرد الحب لأهل بيت الرسول عليهم السلام ولا تتأتى من دون مطابقة الانسان لحياته مع حياتهم بالعمل بما كانوا يعملون، وإنتهاج ما كانوا ينتهجون، ولعله من الموارد التي تؤخذ على كل من يعتقد بولاية أهل البيت عليهم السلام هو أن يدّعي ولايتهم، لكنه وفي نفس الوقت بعيد عن حياتهم، بعيد عنهم في سلوكياته وممارساته، بل وبعيد عنهم في ثقافته ورؤيته الى الحياة وبصيرته حول الكون، وبالتالي بعيد عنهم في فلسفته.
أهل البيت .. والفلسفة الصحيحة
ولعل هناك من يدّعي أن ليس في توجيهات وأحاديث أهل البيت عليهم السلام فلسفة ما، ولكن هل يستطيع الانسان أن يؤمن بدين لا فلسفة فيه؟
ونحن نقول لمثل هؤلاء ها هو القرآن الكريم، من بدايته الى نهايته فلسفة، لكن فلسفته تختلف عن فلسفة الاغريق، ففلسفة القرآن ظاهرها أنيق وباطنها عميق، ظاهرها حِكم وباطنها علم، له تخوم ولتخومه تخوم، له بطن الى سبعة أبطن، وقد علّم النبي العظيم صلى الله عليه وآله فلسفة القرآن لعلي في اللحظات الاخيرة من حياته، والذي قال عنه الامام عليه السلام : (علمني رسول الله باباً من العلم ينفتح لي منه الف باب)، وأبواب العلم تلك لم تكن في الصلاة والصيام فقط، وهذا ما يشهد عليه كلامه عليه السلام الماثل أمامنا في (نهج البلاغة)، فخطبته في صفات الله، وخطبته في الطاووس، وخطبته في النحلة، وفي النخلة وكلماته التي تبين رؤيته الى الحياة تلك الكلمات التي ملأت الآفاق، هي التي علمه إياها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إن كل الاديان الالهية والثقافات البشرية لابد وأن ترتكز على قاعدة فلسفية مختصة بها، وهذا الذي يدعونا الى الحذر والتبصّر. فقد لايقتنع انسان بالفلسفة الدينية، وهذا لايعني أنه لا يؤمن بفلسفة قط، فتفكيره ونظرته الى الحياة، ثم سلوكه فيها، لابد أن يكون مبنياً على رؤية معينة.
من هنا فإن الولاية لاهل البيت تعني وقبل كل شيء هي التخلق بأخلاقهم وأخذ العلوم والمعارف عنهم عليهم السلام، وفي الحديث عن الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام انه قال: (من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله التيه الى يوم القيامة). وليس القصد من علم أهل البيت عليهم السلام هو علوم التكنولوجيا والرياضيات وأمثالها من العلوم المختبرية، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يحث على طلب مثل هذه العلوم من أي شخص، ومن أي مكان، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلّم: (إطلب العلم ولو بالصين) وفي حديث آخر: (الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها أنّى وجدها) بل المقصود بالعلم الذي لايؤخذ إلاّ من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله هو : علم التوحيد وعلم العقائد وعلم الثقافة والمعارف الالهية.
إن مجرّد التعبير عن حب أهل البيت، لا يمكن توجيهه بحال، فلا معنى لأن يكون الانسان محباً لهم مؤمنا بهم، بينما نراه يضع جلّ إهتمامه لدراسة كتب مفكرين تتعارض افكارهم مع افكار اهل البيت عليهم السلام، فتراه يقرأ كتباً لبرتراند راسل ولجان جاك روسو، يقرأ لفولتير ولوليام جيمز وديكارت ولكونت ولماركس وماكس فيبر ولآخرين غيرهم، بينما يضع جانباً نهج البلاغة والصحيفة السجادية وسائر الادعية المنقولة عن الأئمة عليهم السلام بما احتوتها من المعارف والبصائر، وبما إنطوت عليه من غزير العلم وعمق البصيرة. فكيف يمكن أن يعتبر الانسان نفسه موالياً لأهل البيت، بينما يأخذ فلسفته من غيرهم ؟!
اننا نقرأ في القرآن كلام الله جلّ شأنه: " فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ" (عبس/24) وفي تفسير هذه الآية يقول الحديث الشريف عن الامام ابي جعفر عليه السلام عندما سئل عن معنى الطعام قال: (علمه الذي يأخذه ممن يأخذه). فكما تعاف النفس العطشى المياه الآسنة، وتتلهف للارتواء بالمياه الصافية، والاغتذاء بالغذاء السليم الذي هو قوام الجسم، كذلك نفس المؤمن تعاف الانحرافات والخرافات والاساطيـر، وتصبو الى الفكر السليم الخالي من كل شائبة، هذا الفكر الذي يشكل بـدوره طعام الروح، وإلاّ ألزمها الله تعالــى التيه الـى يوم القيامة. إذ لعل فكرة واحدة تضل الانسان ضلالاً بعيداً بُعد السماء عن الارض.