ابن درّاج القسطلي... بين الأصالة والتقليد
|
منذر الخفاجي
يعد القرن الرابع الهجري وما تلاه من أخصب فترات الشعر العربي في الأندلس فقد بلغ الشعر في تلك الفترة أوج تألقه وصار شعراء الأندلس ينافسون شعراء بغداد والقاهرة ودمشق حيث ذاع الشعر في تلك الفترة بين جميع الطبقات وأقبل الناس عليه سواء منهم الخلفاء والأمراء والوزراء والفقهاء والحكماء والأدباء.. ويصف حنا الفاخوري في (تاريخ الأدب العربي) ص797 تلك الفترة فيقول: (تنافسوا في نظم الشعر وكانوا يتراسلون فيما بينهم شعراً ويحاولون أن يعيشوا حياة شعرية) وقد تأصل الشعر في نفوسهم فكان جزءاً من طبيعتهم التي فطروا عليها ويمكن أن نعدّ هذا مصداقاً للحديث الشريف: (لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل حنينها) وقد حافظ الشعراء الأندلسيون رغم أختلافهم عن شعراء المشرق في طبيعة بلادهم ونظام معيشتهم وطريقة تثقيفهم على سلامة اللغة العربية وآدابها و عنايتهم بالمعاني والأساليب كما تميزوا بالمعاني المبتكرة والسهولة والوضوح وعدم التكلف والبعد عن الفلسفة والإبداع في الصور والأخيلة وإبتداع أوزان أخرى كالموشح.
ولكن كان بعض الشعراء الأندلسيين من تميز بنفسه الشرقي الخالص في شعره إضافة الى إسلوبه ومعانيه وطريقته في عرض القصيدة وبنائها وكان من أبرز هؤلاء الشعراء ابن عبد ربه وابن هانئ وابن شهيد و... وابن درّاج القسطلي وقد اختلف النقاد القدماء والمحدثون حول هذه الظاهرة فمنهم من عدها أصالة وقوة في البلاغة والسبك ومنهم من عدها تقليداً ومحاكاة وتبعية وما يهمنا في هذا الاختلاف في آراء النقاد وهو أن شاعرنا ابن دراج القسطلي كان أبرز هؤلاء الشعراء الذي حام الغموض حول شعره والتفاوت في التقدير والنقد حول أصالته وتقليده وبطبيعة الحال فأن هذا التفاوت يرجع الى أسباب كثيرة ونرجو أن نوفق في استقصاء ما يفي منها بجلاء هذا الغموض والتحري عن التقدير الصحيح.
وقبل الدخول في خضم هذا الموضوع يجدر بنا أن نتصفح بعض الأوراق من حياة هذا الشاعر ومكانته في عصره. ولد أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج القسطلي في (قسطلة دراج) وهي بلدة غرب الأندلس وكانت ولادته عام 347 للهجرة / 958 م وقيل أن هذه البلدة منسوبة الى جده، نبغ القسطلي في الشعر حتى عدّ في طليعة كبار الشعراء الذي أثروا الأدب الأندلسي قال عنه الثعالبي في يتيمة الدهر ج1 ص438: (كان بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام) وقال عنه ابن بسام في الذخيرة ج1 ص99: (أنه كان لسان الجزيرة شاعراً وأولاً حين عده معاصروه من شعرائها وآخر حاملي لوائها وبهجة أرضها وسمائها وأسوة كتابها وشعرائها) وقد ظهر ابن دراج بين شعراء قرطبة في أواخر فترة الخلافة واتصل بأبي عامر ومدحه بقصيدة مطلعها:
أضاء لها فجر النهى فنهاها عن الدنف المضني بحر هواها
وظللها صبح جلا ليلة الدجى وقد كان يهديها إليّ دجاها
وهي قصيدة قوية السبك متينة البناء جزلة المعاني جعلت الشعراء المعاصرين له والمقربين من ابن أبي عامر يخشون منافسته لهم فأتهموه بالإنتحال والسرقة وقد بذل ابن دراج جهداً كبيراً ليبطل هذا الاتهام ويثبت إمتيازه وصدق شاعريته لكن تهم الحاسدين كانت تزداد عندما قربه ابن أبي عامر وقدر كفايته الشعرية وتوثقت عرى صحبته له فإرتفع شأنه بين شعراء الأندلس والمغرب وقدره النقاد المعاصرون له وأشادوا بنبوغه وعبقريته فقال عنه عبد الواحد المراكشي في كتاب (المعجب في تلخيص أخبار المغرب) بعد أن أشار الى قوله:
تلاقت عليه من تميمٍ ويعربٍ شموسٌ تلألئ في العلا وبدورُ
من الحمريين الذين أكفهم سحائب تهمى بالندى وبحورُ
(أبو عمر هذا من فحول شعراء الأندلس والمجيدين منهم.. وكنت أنا في أيام شبيبتي مولعاً بشعره كثير الدراسة له) ثم يذكر له بيتين قال أنه إرتجلهما وهما:
أجد الكلام إذا نطقت فإنما عقل الفتى في لفظه المسموعِ
كالمرء يختبر الإناء بصوته فيرى الصحيح به من المصدوعِ
وقال عنه الحميدي في كتابه (جذوة المقتبس): (كان كاتباً من كتاب الإنشاء في أيام المنصور أبي عامر وهو معدود في جملة العلماء، والمقدمين من الشعراء، والمذكروين من البلغاء وإن طريقته في البلاغة والرسائل تدل على اتساعه وقوته) وينقل عن أحد أدباء الأندلس قوله: (لو قلت أنه لم يكن بالأندلس أشعر من ابن دراج لم أبعد) وقال آخر: (لو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج لما تأخر عن شأو حبيب والمتنبي) وقد خصص له مؤرخ الأدب الأندلسي أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني في كتابه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) فصلاً مطولاً في القسم الأول من المجلد الأول نقل فيه قول ابن حيان في القسطلي: (أبو عمر القسطلي سباق حلبة الشعراء العامريين وخاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين).
وهناك أقوال أخرى في القسطلي تركناها خشية الإطالة واكتفينا بهذه الأقوال من أفواه أئمة اللغة والحديث والتاريخ التي لا تحتاج الى توضيح في الأدلة على مكانة شاعرنا القسطلي. وقبل أن نستعرض الآراء المغايرة في القسطلي لابد أن نشير الى أن هذه الآراء لم يتفوه بها أي أحد من النقاد القدامى فكل الذين توحدت آراؤهم ضد القسطلي هم من المحدثين الذي لم يقبلوا بآراء القدامى رغم قربهم من عصر القسطلي فالدكتور أحمد ضيف يقول عن القسطلي: (لم يكن شاعراً فطرياً يقول الشعر عن شعور صحيح أو دافع نفس وإنما هو مقلد بارع حتى في المعاني التي لم يشعر بها نفسه وفي وصف الأمكنة التي لم يرها إلا في كلام الشعراء فهو من الذين اتخذوا الشعر صناعة لفظية وآلة من آلات الكلام ليمدح به من يريد)، أما الدكتور أحمد أمين فيقول عن القسطلي في الجزء الثالث من كتابه (ظهر الإسلام): (والحق أن شعره يشبه شعر المتنبي في الظهر دون المخبر فشعر المتنبي في مظهره إسلوب فخم قوي تسمعه كأنه قعقعة سلاح ومكنته قدرته على أن يأتي بألفاظ جزلة وأساليب عربية يستطيع أن يرغمها على التقديم والتأخير وا لذكر والحذف ولكن لم يكن لأبن دراج قوة المتنبي في المعاني الذهنية الدقيقة ولا في الحكمة الرفيعة إنما هو تلميذ المتنبي في فخامة شكله وهي مدرسة كان على رأسها ابن دراج ومن تلاميذ ابن شهيد وابن هانئ وفي الحقيقة إنك إذا قرأت شعر هؤلاء الثلاثة أدركت أن شعرهم من رأسهم وفرق بين الصوت القوي والأفرع الذي يخرج من الرأس وبين الصوت الحنين الذي يخرج من القلب وقد روي أن لأبن دراج ديواناً من جزأين ولكن مع الأسف لم يصل إلينا) واضح مما تقدم أن النقاد القدامى قد اطلعوا على شعر القسطلي وعرفوا قيمته الفنية والأدبية فأشادوا به هذه الإشادة ولم يتهمه أحد بالإنتحال والتقليد في عصره سوى بعض الشعراء الذين مالوا الى احكام الحسد والغيرة وما يولدانه من الكراهية والظلم ومجافاة الإنصاف وهذه كانت آراء شفوية لم تدون من قبل مؤلف أو مؤرخ وفق دراسة موضوعية أو منطق تحليلي نقدي بل تبادلها الشعراء فيما بينهم ونقلها الكتاب عنهم فكانت إساءة ومغالطة بحق الشاعر القسطلي وقد تناول النقاد المحدثون هذه الإساءة والمغالطة فبثوها في كتبهم لأنهم ينظرون الى الشعراء والكتاب وحتى الفرق و المذاهب من زاويتهم الخاصة ويطلقون عليهم أحكاماً فردية دون تمحيص أو تحليل وهذا ينطبق تماماً على أحمد أمين الذي اشتهر بإطلاق التهم جزافاً وخاصة في كتابه (ضحى الإسلام) و (ظهر الإسلام) وأكبر دليل على ذلك أنهم لم يقرأوا ديوان القسطلي سوى قصائد قليلة متفرقة في الكتب التي ترجمت له أو عرضت مختاراته لأن أول طبعة لديوان القسطلي بعد أن ظفر به الباحثون كانت عام 1916 وإن كل هذه التهم التي كالوها للقسطلي كانت قبل هذه السنة وإن القصائد القليلة التي اطلع عليها هؤلاء النقاد لا تعطي صورة وافية كافية عن الشاعر وقد أكد ذلك الدكتور أحمد هيكل في كتابه عن (الأدب الأندلسي) وهو حجة في دراسة الأدب الأندلسي فيقول عن القسطلي بعد أن أثبت بعض قصائده: (وهكذا تتضح شاعرية القسطلي الأصلية البارعة ومقدرته على التصوير الحسي والنفسي وخاصة حين يصف الترحال ويصور الحنين وهكذا أيضاً تتضح قسوة أحمد ضيف في حكمه على القسطلي) ويرد على رأي أحمد أمين بقوله: (وقد قسى أحمد أمين على ابن دراج فقال بعد أن أورد أبياتاً من قصيدته (فنرى من هذا محاكاة للمتنبي في الوزن والقافية وتقليده في إسلوبه ومعانيه). والحق أن القسطلي لم يكن يحاكي أو يقلد وإنما كان كغيره من كبار الشعراء في الأندلس ينافس ويسابق)).
ونختم الأقوال بقول للناقد المستشرق الروسي (أغناطيوس كراتشكو فسكي) ولعل هذا القول هو الفصل في حقيقة مكانة القسطلي الشعرية يقول كراتشكوفسكي في الفصل الذي كتبه عن الشعر العربي في الأندلس ضمن كتابه (دراسات في الأدب العربي) والذي ترجمه الى العربية الأستاذ محمد المعصراني: (كان ابن دراج مثالاً للشاعر الكاتب لا في الحضارة الأندلسية وحدها بل في الحضارة العربية كلها لقد كان واسع العلم قادراً على أن يقرض بسهولة الشعر). ثم يصف الأصالة والمحافظة على الإسلوب والمعاني في شعر ابن دراج وأصحاب مدرسته بقوله: (وبفضل هؤلاء الشعراء الذين هم من نوع ابن دراج تثبتت نهائياً لدى الأندلس دعائم الشعر ذي الميول الكلاسيكية الجديدة الذي نشأ في مدن العراق قبل العصر الأندلسي بقرنين).
لقد واجه القسطلي هجومين من قبل تيارين هما تيار الحسد والغيرة وهذا التيار تحدثنا عنه أما التيار الثاني فهو تيار عدم الفهم والخطأ في التقدير الدقيق فالقسطلي كان محافظاً على نفسه الشرقي متزمتاً في أصالته وإقتفائه المنهج الفني والبلاغي للشعر العربي المشرقي على أكمل وجه في أجواء تكاد تكون مغايرة تماماً عن أجواء المشرق العربي وهذا ليس عيباً على الشاعر بل بالعكس هذا يحسب للشاعر، فلو كانت ولادة القسطلي في بغداد مثلاً أو البصرة أو أي بلد مشرقي لما استطاع أي إنسان أن يوجه إليه تهمة الإنتحال والتقليد والمحاكاة، ورغم ذلك فكل هذه التهم لم تضر بجوهر رسالة الشاعر القسطلي فقد ساعد في تأصيل الشعر العربي المشرقي في الأندلس وتعزيز قاعدته. ومثل هذه الظاهرة كثيرة في الكتّاب في تحاملهم على أحد الشعراء أو المفكرين وهم لا يعرفون حقيقة تفكيره واتجاهه في منهجه فيتوهمون له صورة مغايرة لحقيقته. بقي أن نشير الى أن القسطلي كان أحد شعراء أهل البيت (ع) الذي أثبتوا حقهم (ع) وتمسكوا بولايتهم وتوسلوا بشفاعتهم وله الكثير من القصائد في ذلك منها قصيدته اللامية الطويلة والتي سماها ابن بسام بـ(الهاشميات الغر) ووصفها (بمطالع النجوم الزهر) يقول القسطلي فيها:
لعلكِ يا شمسُ عند الأصيلْ شجيتِ لشجو الغريبِ الذليلْ
فكوني شفيعي الى ابن الشفيع وكوني رسولي الى ابن الرسولْ
ثم يقول في رثاء سيد الشهداء:
الى الهاشمي الى الطالبي الى الفاطمي العطوف الوصولْ
الى ابن الوصي الى ابن النبي الى ابن الذبيح الى ابن الخليلْ
ويختم هذه (المطولة) بهذه الأبيات في حق آل محمد (ص):
فأنتم هداة حياةٍ وموت وأنتم أئمة فعل وقيلْ
وسادات من حلّ جنات عدن جميع شبابهم والكهولْ
وأنتم خلائق دنيا ودين بحكم الكتاب وحكم العقولْ
ووالدكم خاتم الأنبياء لكم منه مجد حفي كفيلْ
تلذ بحملكم عاتقاه على حمله كل عبءٍ ثقيلْ
ورحب على ضمكم صدره إذا ضاق صدر أبٍ عن سليلْ
وزودكم كل هدي زكي وأودعكم كل رأي أصيلْ
توفي ابن دراج عام 421 للهجرة / 1031 م عن 74 عاماً.
|
|