رثاء الأزواج في الشعر العربي
|
هادي الشمري
شكلت ظاهرة اشتهار النساء العربيات في الجاهلية بالرثاء ظاهرة اجتماعية في الأدب العربي، ذلك أنهن أسرع تأثراً وأكثر إنفعالاً من الرجال حين يكون فقدان العزيز والأثير، فكان الرثاء تقليداً عند المرأة مرعياً لا تنساه ولا تهمله ويدلنا على ذلك كثرة الشاعرات الرثائيات استجابة لعواطفها وانفعالها بالمصاب من ناحية ومؤدية واجبها في الميدان الأدبي من ناحية أخرى، أي أنها كانت تقوم به كما كان يقوم الشاعر بواجب نشر مفاخر القبيلة كل منهما في ميدانه الذي تحرص عليه القبيلة فكما كان الشعر لسان القبيلة السياسي كانت الشاعرة الراثية لسان القبيلة الباكي وقد عبر كارل بروكلمان عن هذه الظاهرة في كتابه (تاريخ الأدب العربي) ج1 ص48 بقوله: (على أن إظهار الحزن لم يكن يناسب رجال القبيلة كما كان لائقاً بنسائها – وخاصة الأخوات – ومن ثم بقي تعهد الرثاء الفني من مقاصدهن حتى عصر التسجيل التاريخي)، كما يدلنا قول الاستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه (تاريخ آداب العرب) ج3 ص61 بقوله: (ولا يهولنك كثرة أسماء النساء اللاتي قلن شعراً فعمود الشعر عندهن الرثاء).
وكما اعتمد الرثاء – عندهن – على الإنفعال بالتجربة الإنسانية وتصوير الإحساس بالفجيعة، فإنه اعتمد كذلك على جانب آخر إلا وهو جانب الثناء على الميت حيث كانت الشاعرة العربية تعدد مناقب الميت وتضمّن مختلف المثل العليا خاصة الكرم والشجاعة والنجدة في شعرها وقد اشتهر الرثاء النسائي في الإخوة – كما قال بروكلمان – حتى تكاد تكون هذه الظاهرة هي مسؤولية تناط بالأخت دون باقي نساء الميت وليس أدل على (الخنساء) التي اشتهرت برثاء أخيها صخر حتى أنشأت ديواناً كاملاً في ذلك ورغم أننا لا نجد هذا الكم من الرثاء للنساء في الأزواج إلا أننا نجد ما يماثله في التفجع والحسرة والتلهف والأسى من المرأة التي فقدت زوجها وعماد أسرتها والمسؤول عن إعالة أبنائها والمدافع عنهم في أجواء مشحونة بالغزو والقتل.
ولعل أقدم ما عرف الأدب العربي من رثاء شاعرة لزوجها هو رثاء الأميرة جليلة بنت مرة لزوجها كليب (وائل بن ربيعة) الذي كان بطل قبيلته ربيعة بفرعيها بكر وتغلب وحاكمها وقد قتله جسّاس بن مرة – أخو جليلة – والقصة مشهورة فقامت حرب البسوس التي امتدت سنوات وأحست جليلة عذابات التمزق بين ولائها لزوجها القتيل وبين ولائها لأخيها القاتل إشفاقاً عليه من القتل لأخذ الثأر فكانت ترى الدمار والخراب الذي أصاب القبيلتين حيث قام المهلهل مطالباً بدم أخيه وكان فارساً صنديداً. وفي مأتم كليب اجتمعت نساء الحي فلم يشفقن على جليلة في فجيعتها فقلن لأخت كليب: (رحّلي جليلة عن مأتمك فإن قيامها فيه شماتة وعار عند العرب) فقالت: (ياهذه أخرجي عن مأتمنا، أنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا) فخرجت فقالت أخت كليب: (رحلة المعتدي، وفراق الشامت ويل غداً لآل مرة من الكرة بعد الكرة) فلما بلغ قولها جليلة قالت: (وكيف تشمت الحرة بهتك سترها، وترقّب وترها، أفلا قالت: نفرة الحياء وخوف الإعتداء؟) ثم قالت قصيدة تشكو فيها لوعتها وفجيعتها بإحساس إنساني صادق تخاطب فيها أخت كليب تقول فيها:
يا أبنة الأقوامِ إن شئتِ فلا تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنتِ تبيّنت الذي يوجب اللوم فلومي وأعذلي
إن تكن أختُ إمرئ ليمت على شفق منها عليه فإفعلي
فعل جساس على وجدي به قاطع ظهري ومُدن أجلي
لو بعين فُديت عيني سوى أختِها فأنفقأت لم أحفلِ
تحمل العين إذى العين كما تحمل الأم أذى ما تفتلي
ولم تنفع كل الحلول التي قام بها رجال (مرة) دون قيام الحرب فلم يجد (إغلاء الديات) ولا (كرم الصفح) الذي عرض على المهلهل معه نفعاً فكل ما يريده هو الثأر وهذا ما زاد في فجيعة جليلة فأحست بضياعها فقالت ترثي زوجها:
يا قتيلاً قوّض الدهر به سقفَ بيتيَّ جميعاً من علِ
هدم البيت الذي استحدثته وأنثنى في هدم بيتي الأولِ
ورماني قتله من كثب رمية المُصمي به المستأصلِ
يا نسائي دونكن اليوم قد خصني الدهر برزء معضلِ
خصني قتلُ كليب بلظى من ورائي ولظى من أسفلي
ليس من يبكي ليومين كمن إنما يبكي ليوم ينجلي
وكان من عادة النساء في الجاهلية عند البكاء على الميت شقّ الجيوب ولطم الخدود وتعفير الرؤوس بالتراب وكن لا يستعملن مدة العزاء طيباً أو زينة ولا يغسلن رؤوسهن ولكننا نجد في مرثية (عجيبة) لإمرأة زارت قبر زوجها وهي لا بسة الحُلي والحلل فقالت:
يا صاحب القبر من كان ينعم بي بالاً ويكثر في الدنيا مواساتي
قد زرت قبرك في حَلي وفي حلل كأنني لستُ من أهل المصيباتِ
أردت آتيك فيما كنتُ أعرفه أن قد تُسَرُ به من بعض هيآتي
فمن رآني رأى عبرى مولهة عجيبة الزي تبكي بين أمواتِ
والظاهر من حديثها لزوجها مدى حزنها وسبب زيارتها له بهذا الزي العجيب ولولا أنها تعرف أنه كان يُسرّ بذلك لما فعلت وأمتنعت عنه لأنه لا يناسب أهل المصيبات. وقد وجدت المرأة في الشجاعة والكرم الضالة المنشودة في رثاء الميت فممن مجدن هذه الصفات في زوجها هي سمية زوجة شداد بن عبس الذي قتله حبّار العامري فقالت:
فمن بعدَ شداد يحمي الحريم إذا الحرب قامت وسال العَرَقْ
ومن يردع الخيل يوم الوغى ومن يطعن الخصم وسط الحدقْ
ومن يكرم الضيف في أرضه ومن للمنادي إذا ما زعقْ
وإضافة الى هذه الصفات فهناك صفات أخرى كثيرة كانت تضيفها المرأة على شخصية زوجها منها حسن التدبير والبلاغة وفض الخصومات كما في قول أم قيس الضبية في رثاء زوجها ابن سعد:
من للخصوم إذا جدّ الضجاج بهم بعد ابن سعد ومن للضمَّرِ القودِ
ومشهدٍ قد كفيت الغائبين به في مجمع من نواحي الناس مشهودِ
فرجته بلسانٍ غير ملتبسٍ عند الحفاظ وقلب غير مزؤودِ
إذا قناة إمرئٍ أزرى بها خَورٌ حزَّ ابن سعدٍ قناةً صلبة العودِ
وقد يمتزج رثاء الزوج عند المرأة برثاء القوم فتعدد فضائل قومها وتنوه بشجاعتهم وكرمهم وذلك ما نراه في رثاء الخرنق بنت هفان زوجها ونفراً من قومها في أحد أيام العرب فتقول:
لا يبعدنْ قومي الذين هُمُ سم العُداةِ وآفةُ الجُزُرِ
النازلون بكل معتركٍ والطيبون معاقِد الأزرِ
الضاربون بحومةٍ نزلت والطاعنون وخيلهم تجري
وتصور ريطة بنت عاصم فداحة مصيبة فقدها زوجها وقومها بأنها لا تقوى عليها الجبال وكان الجبل يعدّ رمزاً للثبات والقوة ولكنه يتهدم ويتحطم إذا أُصيبت بمثل مصيبتها كما تقول:
وقفت فأبكتني ديار عشيرتي على رزئهن الباكياتُ الحواسرُ
غدوا كسيوف الهند ورّاد حومةٍ من الموت أعيا وردهنّ المصادرُ
فوارس حاموا عن حريمي وحافظوا بدار المنايا والقنا متشاجرُ
ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا لهُدّت ولكن تحمل الرزء عامرُ
وتصل الفجيعة بإمرأة ترثي زوجها الى الحد الذي شكلت المرثية ضرباً من الولولة أو الندب المثير فتقول:
وحدّثني أصحابه أن مالكاً أقام ونادى صحبه برحيلِ
وحدثني أصحابه أن مالكاً ضروب بنصل السيف غيرُ نكولِ
وحدثني أصحابه أن مالكاً جواد بما في الرحلِ غيرُ بخيلِ
وحدثني أصحابه أن مالكاً صَرومٌ كماضي الشفرتينِ صقيلِ
ومع كثرة مراثيها لأخويها فإن الخنساء وهي أم الرثاء في الشعر العربي رثت زوجها مرداس بن أبي عامر وكان من قومها بني سليم وقد مات قتيلاً تقول في رثائه:
لما رأيت البدر أظلم كاسفاً أرن شواذ بطنه وسوائله
رنيناً وما يغني الرنين وقد أتى بموتك من نحو القرية حامله
لقد خار مرداساً على الناس قاتله ولو عاده كناته وحلائله
وقلن ألا هل من شفاء يناله وقد منع الشفّاء من هو نائله
وفضل مرداساً على الناس حلمه وإن كل هم همه فهو فاعله
وإن كل واد يكره الناس هبطه هبطت وماء منهل أنت ناهله
ومن أعمق المراثي في الدلالة على الفجيعة ما تصوره هذه الأبيات من المودة والوفاء وحسن المعاشرة تقول صفية الباهلية في رثاء زوجها:
كنا كغصنينِ في جرثومةٍ بسقا حيناً على خير ما تنمى له الشجرُ
حتى إذا قيل: قد طابت فروعهما وطال قنواهما واستنفر الثمرُ
أخنى على واحدي ريب الزمان ولا يبقى الزمان على شيء ولا يذرُ
فأذهب وحيداً على ما كان من أثر فقد ذهبت فأنت السمع البصرُ
وما رأيتك في قوم أسرُّ بهم إلا وأنت الذي في القوم تشتهر
كنا كأنجم ليل بينها قمرٌ يجلو الدجى فهوى من بينها القمرُ
ومن عجيب الرثاء ما رواه الأصمعي من أنه دخل مع صاحب له بعض المقابر فرأى إمرأة على القبر تبكي بحرقة وألم فتبين لهما من كلامها أنه قبر زوجها فلما سألاها عن حالها قالت:
فإن تسألاني فيم حزني فإنني رهينة هذا القبر يا فتَيَانِ
وإني لأستحييه والترب بيننا كما كنت أستحييه وهو يراني
أهابك إجلالاً وإن كنت في الثرى مخافة يوماً أن يسؤك لساني
وتكشف فاطمة بنت أحجم الخزاعية الذل الذي لحق بها جرّاء فقدها زوجها بعد أن كانت عزيزة في حماه يرعاها ويبرها تقول في رثائه:
يا عين بكّي عند كل صباحِ جودي بأربعةٍ على الجرّاحِ
قد كنت لي جبلاً ألوذُ بظله فتركتني أضحى بأجرد ضاحي
قد كنت ذات حميةٍ ما عشتَ لي أمشي البرازَ وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي منه وأدفع ظالمي بالراحِ
وأغضّ من بصري وأعلم أنه قد بان حد فوارسي ورماحي
وإذا دعت قمرية شجناً لها يوماً على فنن دعوت (صباحي)
ونختم هذه المختارات من مراثي النساء لأزواجهن بأصدقها إحساساً وأعمقها تفجعاً وأشدها أثراً في النفوس وهي مراثي الرباب في زوجها الإمام أبي عبد الله الحسين (ع) سيد الشهداء والرباب هي بنت إمرئ القيس بن عدي الكلبية وهي أم عبد الله الرضيع وسكينة بنت الحسين، قال ابن الأثير في تاريخه ج4 ص36: (كانت الرباب بنت إمرئ القيس من خيرة النساء وأفضلهن جاء بها الحسين (ع) مع حرمه الى الطف، وحُملت معهن الى الكوفة ورجعت مع الحرم الى المدينة فأقامت فيها لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً من البكاء على الحسين (ع) ولم تستظل تحت سقف حتى ماتت بعد قتله بسنة كمداً) ويقول ابن الجوزي في تذكرة الخواص وابن الأثير في الكامل والأصفهاني في الأغاني: (أنها في تلك السنة التي عاشت بها خطبها الأشراف فأبت وقالت ما كنت لأتخذ حماً بعد رسول الله وحق لها إذا إمتنعت فإنها لا ترى مثل سيد شباب أهل الجنة) تقول الرباب:
إن الذي كان نوراً يستضاء به في كربلاء قتيل غير مدفونِ
سبط النبي جزاك الله صالحة عنا وجُنِّبت خسران الموازينِ
قد كنت لي جبلاً صلداً ألوذ به وكنت تصحبنا بالرحم والدينِ
من لليتامى ومن للسائلين ومن يغني ويأوي إليه كل مسكينِ
والله لا أبتغي صهراً بصهركمُ حتى أوسَّد بين اللحدِ والطينِ
|
|