قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

حرية الرأي والتعبير تبحث عن النماذج السياسية الراقية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عز الدين
بالرغم من أن تاريخ الحاكمين منذ رحيل الرسول الأكرم (ص) لم يكن نموذجاً مشرفاً في التعامل مع الرأي المخالف، وربما لا نجد صوراً كثيرة يمكن الاعتزاز في هذا الجانب، إلا أننا لو نظرنا إلى القرآن الكريم ثم سيرة الرسول والأئمة الأطهار (ع) وبعض الخلفاء الصالحين لوجدنا صورا طيبة أن اتخاذها نماذج يحتذى بها للأجيال .
فأول ما نلتقي بنقل القرآن الكريم لمناقشات الكفار مع أنبياء مجتمعاتهم، فنحن لا نرى أن الأنبياء يعيبون على أولئك إبداء آرائهم أو أنهم يعاتبونهم على كلماتهم، وإنما يبسطون الأمر معهم مناقشين ومحاورين لبيان الحقيقة ولسانهم في كل ذلك "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ" (الانبياء /24)، والآية الأخرى: "أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (النمل /64)، هذا مع كون أولئك كفارا خاطئين.
ووجدنا طريقة الرسول الأكرم حيث كان أصحابه يناقشونه، بما لو فعله بعضٌ في هذه الأزمنة مع عالمٍ من العلماء لعُدّ مرتداً ! أو ليس (الراد عليهم كالراد على الله)، فيما يفهمه هؤلاء الناس خطأ، فهذا عدي بن حاتم وكان على المسيحية سابقا، لما قُرئت عليه الآية "تَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ..." (التوبة/ 34)، قال: يا رسول الله ما كنا نعبدهم !! قال: أليس كانوا يحرمون لكم ويحللون فتأخذون بكلامهم؟
وفي تعامل الإمام علي مع الخوارج الذين عارضوه وخالفوه، وأخيرا حاربوه فما كان يقمع رأيهم، ولا يمنعهم عن إبدائه مع أنه الحاكم الحق، بل كان يواجه كلامهم ورأيهم بحججه وبيناته، والإمام الصادق (ع) يتحاور مع الملحدين والزنادقة: فقد نقلوا أن ابن أبي العوجاء، وقد كان تلميذ الحسن البصري، لكنه تركه وانحرف عن التوحيد، وكان يأتي مكة متمردا ومنكرا على من يحج، وكان العلماء يكرهون مجالسته ومساءلته لخبث لسانه، فأتى الإمام الصادق مع جماعة من نظرائه فقال: يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل ! أفتأذن لي في الكلام؟ فقال له: تكلم،
فقال ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المعمور بالطوب والحجر، وتهرولون هرولة البعير إذا نفر ؟! إن من فكر في هذا وقدّر علِم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر...! فقل، فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه وتمامه .
فبدأ الإمام(ع) يبين له أن هذا (بيت قد استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إثباته فحثهم على زيارته وتعظيمه وجعله محل أنبيائه وقبلة المصلين إليه...) الى آخر كلامه .
وفي مقابل هذه النماذج والمنيرة، يذكر لنا التاريخ نماذج سيئة وكثيرة من الحكام المستبدين، وهؤلاء ليس فقط كانوا يصادرون الرأي ويقاومون حرية التفكير والتعبير، بل كانوا ينزلون بصاحبه أشد العذاب والعقاب، وقد بدأت المسيرة منذ بداية العهد الأموي، يروي التاريخ إن كان لدى عبيد الله بن زياد شخص يسمى (صاحب العذاب)، وكان مجرد ذكر اسمه يثير الرعب و ربما يدعو الى الموت ! وقد ذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب) في ترجمة قيس بن خرشة القيسي، أن عبيد الله بن زياد أراد تعذيبه، لأنه كان قوالاً بالحق، فاستقدمه إليه وقال ائتوني بصاحب العذاب فمال عند ذلك قيس فمات !!
وكان (صاحب العذاب) عند الحجاج اسمه معد، ويتكلم بعضهم عما جرى بينه وبين حطيط الزيات الكوفي، حيث كان عابدا زاهدا يصدع بالحق، حاوره الحجاج وكان شديدا صلبا، فقال معد صاحب العذاب للحجاج: إني أريد أن تدفعه إلي فو الله لأسمعنك صياحه فسلمه إليه فظل يعذبه ليلته كلها وهو ساكت حتى كسرت ساقه، فسأله الحجاج بعد ذلك عنه، فقال له: إن رأى الأمير أن يأخذه عني فقد أفسد علي أهل سجني. فاستلمه الحجاج وعذبه ثم لفه في بارية وألقاه حتى مات .
ولم يكن الحال أحسن في زمان العباسيين الذين ابتدعوا صفة صاحب الزندقة، وهي - إضافة إلى سوء تطبيقها بحيث أصبحت سلاحا ضد المعارضين السياسيين- طريقة خاطئة من أساسها في مقاومة الأفكار .
يذكر الطبري في تاريخه في أحداث سنة 268 هـ أن فيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة، و ولى المهدي العباسي حمدويه محمد بن عيسى مكانه، وفيها قتل المهدي الزنادقة .. ولفظ (الزندقة) واسع يدخل فيه ما بين الصوفية إلى الفساق والسياسيين ممن خالف السلطة .
وفي وقت متأخر حدثت فتنة خلق القرآن حيث تداولتها يد الحكام ونكلوا بمن يخالفهم الرأي فيها فبينما ضرب المأمون والمعتصم والواثق الناس على القول بخلق القرآن، جاء المتوكل وضربهم على القول بقدمه وعاقب من يقول بخلق القرآن !!
وأكثر من دفع ضريبة الرأي الحر والفكرة الحقّة والأصيلة هم أتباع أهل البيت (ع)، الذي قدموا التضحيات من أجل رفع الدين والصدح بمفاهيمه وتعاليمه. وقد امتلأت منهم الطامورات والزنزانات لا لذنب اقترفوه، إلا انهم عبروا عن عقيدتهم ومبادئهم السامية.
لكن هل هذا بمعنى أن لا يوجد ضوابط للحرية في مجتمع المسلمين؟ وهل يمكن الحديث عن ضوابط ومحددات لحرية الرأي والتفكير؟
ربما يعترض البعض على ذلك بأن الضوابط معناه تحديد حرية الرأي وقمعها، فوجودها مخالف لعنوان الحرية، ولكن الصحيح هو خلاف ذلك، فإن عدم وجود ضوابط للحرية يعني الفوضى الاجتماعية، فينتقض الغرض الذي يراد من حرية التعبير تحقيقه، وتتخلف النتائج التي يفترض كونها ثمار الحرية الفكرية. من هذه الضوابط:
1/ثوابت الدين:
الدين الإسلامي يعدّ حداً لا يصح تجاوزه، فلا يمكن أن يصار بعنوان حرية الرأي إلى الحديث في نفي الدين من حياة المجتمع المسلم مثلا، وهكذا لا يمكن الحديث في ثوابت الدين الأساسية. وجهة ذلك أن من المستحيل لأي شريعة أن تشرع إلغاء نفسها وإبطال وجودها وإلا كان ذلك عبثا. وسواء كان ذلك النظام والقانون إلهيا أو بشريا، فإن قبوله بأن يكون في أصله محورا للنفي والاثبات، يعني أنه لا مصداقية له .
وهذا لا يختص بالدين الإسلامي بل نحن نجد سائر الأديان كذلك، بل حتى المناهج البشرية، فإن العلمانية مثلا في أوضح صورها لا تشرع قانونا يلغي وجودها، ولا تسمح بممارسة سياسية تنتهي إلى نفيها .
ثم إننا عندما نقول: (ثوابت الدين) ينبغي أن نفرق بينها وبين المعارف الدينية، في ما هو واضح هذه الفترة من التفريق بين الدين (المقدس) الثابت، والمعرفة الدينية (البشرية) والتي هي نتاج العلماء والفقهاء والتي تخضع للاجتهاد والتغيير والتبديل، ومما يؤسف له أن دائرة (الثابت الديني) التي هي في الأصل دائرة محدودة وصغيرة، قد وسعها المتدينون بنحو كبير جدا، حتى غدا كل أمر يمكن أن يكون من (ثوابت الدين) فقد تحدث بعض هؤلاء عن أن غطاء الوجه للمرأة من ثوابت الدين، وأن الاعتقاد بلزوم قتل المرتد من ثوابت الدين و....
2/ النظام الاجتماعي:
من الواضح أن العقلاء في كل عصر يهديهم عقلهم إلى لزوم الكيان الاجتماعي القائم على نظام وقانون لكي تستمر حياتهم بنحو جيد، كما أن الرسالات السماوية عندما جاءت كرست هذه الحقيقة، وأمضت هذه الطريقة العقلائية، واستدركت ما فات العقلاء من تشريعات تهدف إلى تنظيم تلك الحياة. فأصل الحفاظ على النظام العام المتكفل لحفظ الحياة الاجتماعية من الضوابط التي لا يصح تجاوزها باسم حرية الرأي والتعبير عنه.
وربما يشمل هذا أيضا وجود القيادة كأصل لا كتطبيقات إذ يمكن الاختلاف فيها، إذ أنه (لا بد للناس من أمير بَر أو فاجر). فلا يمكن الدعوة باسم الحرية الفكرية إلى إلغاء الحالة القيادية لأن معنى ذلك ضياع الأمن الاجتماعي وسيادة الفوضى.
وبالرغم من توسع السلطات السياسية في الاستفادة من هذا المعنى بحيث يصورون للجمهور بأن معارضتهم لهذه السلطة ستؤدي إلى الفوضى العامة، وهم بذلك يموهون على الناس ويخلطون بين الحقائق بشكل مقصود، فإن من الصحيح أن البديل عن وجود القيادة هو الفوضى لكن هل هذه القيادة الموجودة هي المطلوبة أو أن هناك قيادة أفضل ؟
3/ حياة الآخرين وحقوقهم :
تتكفل الشرائع السماوية بالحفاظ على حياة الناس وحقوقهم، كما تعترف القوانين البشرية بذلك. بل إن كثيرا من الاختلافات الموجودة بينها يمكن إرجاعها إلى الاختلاف على تفاصيل الوصول إلى ذلك الهدف، فالكل يرى أن طريقه يؤدي إلى حياة أفضل للإنسان وحفظ أتم لحقوقه المادية والمعنوية، بل أرجع الكثير من العلماء التشريعات الدينية بكاملها إلى مقاصد خمسة تنتهي إلى حفظ حياة الإنسان وما يرتبط به من مال وعقل وامتداد اجتماعي ونسبي .
وبناء على ذلك فإن حياة الإنسان هي من الضوابط التي تحدد حرية الرأي وكذلك حقوقه، فلا يستطيع أحد بزعم حرية الرأي أن يحرض مثلا على القتل وإلغاء حياة الآخرين، كما لا يمكنه بنفس العنوان أن يصادر حقوقهم أو يدعو إلى مصادرتها.