التشريع الإلهي ونزاهة نظام الحكم
|
*كريم الموسوي
عندما تبتلى الشعوب والأمم بالأزمات السياسية الناشئة من ضبابية نظام الحكم وتأرجح القوانين وتطاول المعايير فوق بعض، فان السبب يبرز واضحاً في عدم وجود أرضية وأساس لقضية الحكم والقيادة، تمكن المشرعين والمنتخبين من قبل الشعب من أن يجدوا الصورة الأكمل والأفضل لصيغة الحكم تقود الحياة، لكن الاسلام الذي لم يدع منطقة فراغ واحدة في الحياة، يقدم أطروحته الكاملة في نظام الحكم ويؤكد على أن الحل الأمثل والأفضل هو أن تكون الحاكمية لله سبحانه وتعالى ولا يستأثر بها الانسان. واذا افتراضنا بأن لا حاكمية لله، فهل يمكن أن نعطي انفسنا اذ ذاك حق التشريع للحياة البشرية؟
ليس في الحقيقة لهذا الاعطاء ما يبرره ويسمح له، لا بحكم الضمير ولا بقضاء العقل، وما ذلك إلا لان الهدف من التشريع هو تقييم الحقوق وتحديد الواجبات، بعد تنظيف النفوس من ادرانها، وفك العقول من اغلالها، ليتسنى بذلك تحقيق حياة حرة سعيدة والأمل في مستقبل افضل للانسانية.
*التشريع الإلهي ضالة الانسان
هذه هي عصارة الغايات المتوخاة من التشريع للحياة البشرية، ولكن ذلك لا يتحقق إلا اذا كان التشريع متفقاً مع سُنة الحق وفطرة الحياة لكي لا يقوم بينهما وبين الانسان اي اختلاف تتكسر تحت وطئته ضلوع البشر وتذهب الاموال والارواح ادراج الرياح.
ان تحقيق التوازن والانسجام بين (التشريع) وبين (الحق والحياة) منوط بعاملين هما:
العامل الأول: معرفة الحق والحياة بكل ابعادهما وعلاقاتهما واسرارهما.
العامل الثاني: الاخلاص لهذه المعرفة بأن يتم التشريع في ضوء ما يعلمه المشرع منهما بعيداً عن مؤثرات البيئة، وضغط الرواسب، ونوازع الشهوة.
ولكن من المستحيل أن تحيط معرفة البشر بكل ما ورائه من حق وحياة وما ينطويان عليه من دقائق واسرار وما بينهما وبين الكائن البشري من علاقات غامضة وشائكة، اذ الانسان محدود في إدراكة وحواسة، والكون الذي يتوسع باستمرار ويتطور، غير محدود في كميته ولا في نوعيته، ولا يمكن ان يحيط علم المحدود بغير المحدود بضرورة العقل وحكم الوجدان.
ليس هناك بين البشر من يتجرد للحق ولا يحيد عنه إلا من عصمه الله من نبىّ او وصيّ. من هنا تأتي طبيعة العجز عن التشريع الصحيح والكامل في الانسان إما لجهل يقصر به عن معرفة الحق، أو ضعف وجهالة في نفسه تمنعه من الحكم بما يعلم من ذلك الحق دون انحياز. وهذه الحقيقة هي التي تفرض على الانسان التماس الهدى من الله سبحانه وتعالى الذي يحيط بكل شيء علماً، ويتصف بقدرة يتعالى بها على كل ما خلق.
من هذه الحقائق كلها يستمد المسلم فكرته العامة حول القيادة الاسلامية التي تتلخص في: أن الحكم لله وحده، في كل من مجالي التكوين والتشريع. فكما هو السيد المطاع والحاكم بالذات في حقل التكوين، فان له وحده السيادة القانونية التامة على البشر جميعاً وليس لأحدٍ مهما أوتي من العلم والقدرة سيادة لا على نفسه ولا على غيره ابداً.
ومن الواضح جيداً أن حاكمية الله لا تعنى إلاّ حاكمية شريعته في الحياة البشرية، وشريعته هي الدين الذي أوحى به إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وعندما ننطق بهذه الكلمة أي حاكمية الله في حقل التشريع، لابد ان نتصور امراً واحداً هو (سيادة الدين).
*إزالة الغموض عن حكم الدين
لقد قرر الدين الاسلامي هذه المبادئ العقلية واعطاها بيناتها الكافية، غير اننا لا يمكننا فهم النصوص الدستورية الواردة فيها إلا بعد معرفة مجموعة من المفاهيم الأساسية التي تطورت من قرن لآخر في معطياتها الادبية مما اضفى ذلك غموضاً وتعقيداً على الموضوع. إنها: الدين، العبادة، الشرك، الرب. ونأتي الى توضيح كل واحد منها باختصار:
1- الدين: هناك مجموعتان من المعاني المترادفة نجدهما في كتب اللغة وهي تسرد مواقع استعمال لفظة (الدين) وهما: مجموعة تعطي معنى (السيادة، السلطة، الحاكمية). ومجموعة تعطى مفهوم ما تتضمنه السيادة من (القانون، الحكم، النظام). ومن أجل نجاح تجربة الدين في الحكم فانه يتعين على الانسان المسلم أن يأخذ كل مفهوم ومفردة مع أخذه بنظر الاعتبار المفردة المجاورة، إذ لا يجوز التبعيض والتجزئة، وإلا سقطنا في متاهة البحث عمن هو الحق ومن هو الباطل، ومن هو الذي يمثل الدين عن غيره.
فالقانون بذاته لا يسمّى بدين ما لم يكن فيه سيادة، بل يدعى في منطق الاسلام بلفظ آخر هو: الحكم، كما ان السيادة وحدها ليست بمعنى الدين، بل لها في القرآن لفظ آخر هو (السيادة) المشتقة منها كلمة السيد. ولكن سيادة القانون انما تكون ديناً بشرط واحد هو ألا تكون الحاكمية مفروضة من الخارج، بل يكون الفرد ملتزماً به ذاتياً، ويكون بين الفرد والقانون نوع من التعاهد الذي يرى الفرد ضرورة الوفاء به وهذا يقترب لفظة (الدِين) إلى لفظة (الدَين) المشتقة منها، اذ يستلزم الدَين الوفاء كما نعلم، اذن فالدين في اللغة هو (الالتزام بالسيادة القانونية).
2- العبادة: ولهذه الكلمة عدة استعمالات مباشرة في النصوص الدستورية هي: (عبد، عبادة، يعبد عابد). وطائفة من الاستعمالات التقابلية.
3- الشرك: لا معنى له لغوياً إلا اشرك احد في العبادة.
4- الرب: لانه يعطي معنى (المعبود) المشتق من أصل معناه الذي يعطى معنى المالك والمربي.
ويرادف معنى الرب: (الاله). فقد جاء في اللغة: (أله)، إلاهة، اُلوهة، اُلوهيةً يعني عبد عبادةً.
هذه المباديء التي يقررها الاسلام ويكررها ويؤكد عليها تشمل ناحيتين من حياة الانسان على الارض: الاولى: ناحية الحكم والثانية: ناحية الحاكم، فاذا كانت الولاية لله واذا كانت السيادة القانونية، والحاكمية المطلقة له سبحانه لم يجز للبشر- الذي لا يملك ولاية على نفسه ولا سيادة ولا حاكمية- أن يشرّع قانوناً، أو ينصب نفسه ولياً إلا بإذن الله الولي والسيد الحقيقي والحاكم المطلق الوحيد. كما لا يجوز له أن يتخذ حكماً أو ينتخب حاكماً لم يأمر به الله. ومن هنا يتحتم اتباع الرسول، لأن اتباعه هو اتباع الرسالة، وتحقيق سيادة الدين التي هي سيادة الله وحاكميته، والى هذا يشير القرآن قائلا: "من يطع الرسول فقد اطاع الله" (النساء/ 12)، واتباع الرسالة لا يمكن الا باتباع الرسول اذ هما رافدان من نبع واحد، لا يمكن ان يفترقا، فهما مظهران لطاعة الله وعبادته والخضوع لحاكميته.
وبعد الرسول تبقى مجموعة من سننه وتضاف الى الرسالة الموحى بها فتسمى بالشريعة، ويجب على المسلم أن يتبعها لأنها شريعة الله ولا يحق لأحد أن يعصيها إذ أنه يسمى آنذاك مشركاً في عبادة الله، مدعياً سيادة أخرى مع سيادة الله الذي له السيادة والحاكمية وحدة.
وهكذا الحال في (الامام) الذي يمثلّ الشريعة لأنه أعطي علمها كاملاً وتحمل اعباءها، فلا يحق لأحد أن يتخذ إماماً لم يأمر أولم يأذن الله باتباعه، والا كان شركا بالله تعالى يرفضه منطق التوحيد الخالص.
إن الطاعة المفروضة للرسول على الناس تستمد شرعيتها من اتباع الرسول لما ينزل عليه من وحى ورسالات، فلو نطق بالهوى- وحاشاه – لم يجز أن يطاع، لانه تنزل حينئذ إلى مستوى البشر، وانفصل عن مقام الرسالة وقد سبق أن الاعتبارهو بالجانب الرسالي في الرسول، لا الجانب البشري الذي يتساوى فيه مع الاخرين. كما انه سبق أيضاً أنه ليس لبشر أن يطيع بشراً مثله ما لم ينزل به الله سلطانا.
ومن هنا جاءت آيات القرآن تترى وهي تحذر الرسول أن يطيع الهوى وتامره بان يلتزم الاستقامة كما أمر كقوله تعالى: "فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" (ص /[26)، "فلذلك فادع واستقم كما امرت ولا تتبع اهوائهم" (الشورى/ 15).
ومن الواضح أن هوى النفس عند الرسول لا يختلف في شيء عن هوى أي بشر آخر، فلو كان هواه متبعاً اذاً لكان هوى غيره متبعاً ايضاً في حين أن الدين قد بنى بناءه على مخالفة الهوى؛ وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" (القصص/ 50).
ومن هنا جاء شرطا الرسول الاساسيان وهما: شرط (الوحي) وهو يحقق علم الرسول بشريعة الله ودينه، وشرط (العصمة) وهو يحقق تجرده للدين واخلاصه للشريعة ليحكم بالدين دون انحراف. وهكذا الحال في الامام الذي يخلف الرسول اذ يشترط فيه (العلم) بالدين و (العصمة). وهكذا في الرئيس الذي يحكم المسلمين في غيبة الامام، حيث يشترط فيه امران: (الفقه) وهو العلم بالدين، و (العدالة) وهي التجرد للدين الذي يقوم مقام العصمة، وتؤدي نتيجتها، اذ بدون هذين الشرطين لا تتحقق سيادة الدين لا في النبي- ص – ولا في الامام، ولا في الفقية العادل وهو الذي يخلف الامام ويقود الامة في غيابه.
وهنا يكمن الفرق بين نظرية: (الحاكم ظل الله في الارض) ونظرية الاسلام: (ان الحكم إلالله). فالنظرية الاولى تعطي البشر- مع ما فيه من ازدواجية العقل والهوى- حق السيادة باسم الله، بما هو بشر لا بما انه يتلقى مواقفه من تشريع الهي، فلو عمل بالهوى وتعدى الحق كان له ذلك ولم يؤاخذ عليه، بينما توقفه النظرية الاسلامية عند الحق فليس له أن يحكم الا بما أراه الله من الحق، فاذا تعداه وحكم بالهوى انتزعت منه السيادة القانونية واصبح (طاغوتاً) لا بد ان يكفر به، ولا يتحاكم اليه في شيء. وهكذا يبدو واضحاً ان نظرية الظلية وهي التي تدعى اليوم بالحكم الثيو قراطي والتي كانت الكنيسة تتبناها في العصور السوداء وكانت سببا للردة الاوربية عن الدين، كيف تجعل هذه النظرية محور الحكم (هوى الحاكم) وما تشتهيه نفسه؟ بينما لا تعترف النظرية الاسلامية الحقة إلا بالله والحق فان كان الحاكم يعمل بأمر الله ويأمر بالحق كان مطاعاً متبعاً، والا فلا، لأن الله وحده الذي له السيادة دون سواه، ولان الحق وحده الذي يجب ان يتبع دون غيره.
|
|