حرية الرأي والتعبير..
التكاملية والأصالة في التشريع الاسلامي
|
*عبد الخالق محمد علي
يستقطع الحديث عن حرية الرأي والتعبير عنه مساحة كبيرة من الحديث والنقاش في عالم اليوم، فعلى المستوى الفكري والنظري وجدنا أن طائفة من أصحاب الرأي ـ بغض النظر عن صوابه وعدمه ـ تطالب بأن يكون لها حرية التعبير عن آرائها، وأن لا تصادر تلك الحرية من قبل أحد سواء كان جهة سياسية أو أخرى مجتمعية.
وعلى المستوى السياسي والعملي أصبحت المطالبة بحرية التعبير عن الخيارات السياسية في رأس قائمة مطالبات الحركات والجهات المعنية بالشأن السياسي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك من يرى أن إطلاق العنان لكل من شاء أن يتحدث وأن يعلن رأيه سوف يجعل المجتمع معتركاً في البداية، ثم يتحول إلى ساحة قتال، وذلك لأن إطلاق الحرية من دون ضوابط يعني مهاجمة كل فئة للأخرى بما تستطيع من قوة!
ويرى قسم ثالث أن الذي يجري في مجتمعاتنا الإسلامية هو تقييد حرية التعبير بأسماء يقبلها عامة الناس، ولكن حقيقة هذه العملية تنتهي إلى الاجهاز على حرية الرأي والتعبير، فقد تتحول (ثوابت الدين) عند البعض إلى دائرة واسعة تشمل حتى الاجتهادات الشخصية، فلا يستطيع أحد أن يجاهر برأيه في مسألة بزعم أن هذا ضد ثوابت الدين! وقد تستغل السلطات السياسية عنوان (قيّم الأمة) و (مصلحتها العليا) وما شابه لكي تقمع فئة أو شخصاً.
بدايةً لا بد من الفصل بين الأمرين؛ فإن التعبير عن الرأي هو مرحلة تالية لتكوينه ولا بد في بادئ الأمر أن يكون التفكير وتكوين الرأي متسالما عليه حتى يُتحدث عن مدى حرية التعبير عنه وإبدائه، وربما يكون هناك خلط بين الأمرين أحيانا، لكنهما متمايزان كما هو واضح .
فهل يمكن تشريع حرية تكوين الرأي ؟
جاء في مفردات (غريب القرآن): (رأى): الرؤية هي إدراك المرئي، وذلك بحسب قوى النفس، فقد تكون بالحاسة وما يجري مجراها مثل "فإما ترين من البشر أحدا" والثاني : بالوهم والتخيل نحو: أرى أن زيدا منطلق... ونحو قوله تعالى: "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا". والثالث : بالتفكر نحو "إني أرى ما لا ترون". والرابع : بالعقل وعلى ذلك قوله "ما كذب الفؤاد ما رأى" و (رأى) إذا تعدت إلى مفعولين اقتضى معنى العلم، نحو "ويرى الذين أوتوا العلم"، والرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن وعلى هذا قوله : "يرونهم مثليهم رأي العين" أي يظنونهم بحسب مقتضى مشاهدة العين مثليهم.
وما يرتبط بحديثنا هو ما عدى الأول الذي هو إدراك المرئي بالحاسة، أما الادراك للمرئي من خلال عملية ذهنية فهو الذي يرتبط بما نحن فيه.
ويبدو أنه بهذا المعنى لا يمكن تشريعه، بمعنى الأمر به أو النهي عنه، فهو أمر خارج عن التكليف لأنه ليس تحت الاختيار. فلا يمكن أن توجب على شخص ولا أن تنهاه عن أن تأتي الأسئلة إلى ذهنه من خلال ملاحظته الخارجية لأشياء، وتكوين انطباع عنها، مهما كانت درجة صحة أو سقم ذلك الانطباع .
ولا يمكن منع الإنسان من تكوين صور ذهنية عن الأشياء، ولا يمكن إيجاب ذلك عليه. نعم يمكن أن يقال له : إذا أردت تكوين رأي صحيح فاتبع الطريق الكذائي، كما أنه يمكن أن يقال له إذا أردت التعبير عن الرأي الذي تكون لديك فينبغي أن يكون بهذه الضوابط أو في الزمان أو المكان المعين.
ولمعرفة آفاق حرية الرأي، لا بد من الاشارة إلى بعض الجهات التي تعد بمثابة تأصيل لهذه الفكرة :
أولاً: العقل وحرية الرأي..
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكلفه بعبادة خالقه بعد معرفته وعمارة الأرض بعد أن استخلفه فيها "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"، وجعل العقل في كل هذه الأمور قائدا ودليلا، و وفق ذلك يكون الثواب والعقاب. ولأجل ذلك فقد مكّن الله العقل الإنساني من اقتحام كثير من المجهولات، وجعل فيه صلاحية الكشف عنها .
ثانياً: الحرية الإنسانية والرأي..
كما تميز الإنسان في خلقته بالعقل المدرك، كان من الطبيعي أن يُخلق حرا مختارا، وإلا فما نفع عقله آنئذ؟ فقد رفع الله العبودية عن الانسان لكل أحد إلا له سبحانه، وعبودية الإنسان لخالقه وإن كانت قسرية في المجال التكويني، إلا أنها في المجال التشريعي باختياره هو، بل جُعل عزه وحريته في أن لا يكون عبدا إلا لخالقه كما في كلام للإمام علي (إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا...).
وجاءت بعثة الأنبياء والرسل لتكريس هذه الحرية وإزالة كل ما يحجز الإنسان عن تحقيق هذه الحرية "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..." و نقل الشريف الرضي عن الإمام علي (ع) قوله: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)، وفي صحراء كربلاء وفي تلك الواقعة التاريخية المدوية خاطب الإمام الحسين الجيش الأموي: ( يا شيعة آل أبي سفيان...! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم وكونوا عرباً كما تزعمون)، أي أن الحرية لا ترتبط بالضرورة بالدين، فحتى مع غضّ النظر عن هذه الجهة فإنه ينبغي للإنسان أن يستشعر حريته ويمارسها ويحافظ عليها .
ثالثاً: تشريعات الحرية في الدين..
بناء على ما سبق فإن التشريعات الدينية ـ ولا تختلف أصول الديانات في هذه الجهة ـ جاءت لتكرس ممارسة الحرية لدى الإنسان، بدءاً من العقيدة وانتهاء بالعمل. فقد حفل القرآن الكريم في العديد من آياته بالدعوة إلى الحرية، والتأكيد عليها. ففي أهم قضية وهي التعبد لله، وطاعته لا يقبل الدين ممارسة الإكراه والقسر على الناس لكي يطيعوا الله "فذكّر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، و "إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب"، و "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وقد كان لله سبحانه أن يخلق الخلق على نحوٍ يكونوا مؤمنين جميعا، ولكن ذلك ينفي غرض الخلقة وهدفها، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" بالطبع يتحمل كل واحد نتيجة عمله، ولكن في ضمن دائرة الاختيار ليس مجبرا على ذلك، وهذا يتفق مع احترام الإنسان لذاته، وشعوره بحريته.
ومن الأصول الإسلامية الثابتة قوله تعالى في آية الكرسي: "لا إكراه في الدين"، وينبغي التوقف قليلا، والتأمل في هذا المقطع من الآية المباركة ضمن النقاط التالية :
1/ هذه الآية أحيطت بكثير من الاهتمام في النصوص المنقولة عن النبي وأهل البيت عليهم السلام، وفي تعامل المسلمين مع هذه الآية في فتراتهم التاريخية المختلفة. ونحن نعتقد أن هذا الاهتمام الاستثنائي يهدف ـ فيما يهدف ـ إلى تكريس ما فيها من رؤى إسلامية، وأفكار عالية سواء في المعتقد التوحيدي، أو في الممارسة الاجتماعية. ذلك أن آيات القرآن كلها من الله سبحانه، واختصاص بعض هذه الآيات بمزيد من الاهتمام يعني وجود معنى إضافي فيها يُراد تركيزه وتكريسه.
ومع الأسف فإن البعض من المسلمين لا يتوجهون إلى هذه الجهة، ويتصورون أن المطلوب منهم هو ترديد الآية كوِرد من الأوراد، وتركيب من الألفاظ، ولذلك قد يقرأه الواحد منهم بلسانه وهو مشغول في شيء آخر بيده ومستمع إلى متحدث بإذنه، وناظر إلى صفحة بعينه !! وهذا مما يضيع على القارئ فرصة التعرف على معاني هذه الآيات والأوراد، ويغيبه عن أغراضها .
2/ أن لهجة هذه الآية ولحن القول فيها، حاسم وحازم، وعلى شكل قانوني قاطع. فمن جهة قد وقعت النكرة (إكراه) في سياق النفي، وهذا يفيد العموم كما هو المعروف عند الأصوليين، (لا إكراه) أي لا يوجد أي إكراه. (في الدين) سواء قلنا أن (أل) هنا عهدية وتشير إلى دين الإسلام، أو كما لعله الأقرب أن (أل) هي للجنس أي في جنس الدين لا يوجد إكراه. وطريقة الابتداء بها أيضا تفيد هذا المعنى وكأننا أمام نص قانوني.
3/ إن هناك اتجاهات متعددة في فهم هذه الآية: "لا إكراه في الدين" :
الاتجاه الأول: يرى أن الآية هي إخبار ظاهرا ولكنها إنشاء واقعا، وهي تنشئ تحريم الاكراه في الدين تكليفا، وبطلان الآثار المترتبة على الإكراه وضعا.
ففي المقام الأول لا يجوز إكراه أحد على معاملة كالبيع أو النكاح أو البيعة السياسية مثلا، ولو حدث أن تم الإكراه فإنه لا تترتب عليه الآثار من انتقال السلعة والثمن بين المتبايعين، ولا تحقق الزوجية بين الطرفين، ولا لزوم الطاعة والحصول على الحقوق بين الحاكم والمحكوم، وهي بهذا تشبه الكثير من الصيغ الواردة في التشريع الإسلامي مثل (لا ضرر ولا ضرار) بناء على شمولها لجانبي التحريم تكليفا، والبطلان وضعا.
الاتجاه الثاني: يرى أن الآية المباركة تتحدث عن الواقع الخارجي وتقرر أنه لا يمكن أن يحصل الاكراه في الدين، وهي بذلك تخبر عن عدم إمكانية تحقق الدين بواسطة الإكراه، وذلك لأن الدين في حقيقته هو التزام نفسي وعقد قلبي قبل أن يكون أعمالا جوارحية خارجية. وقد يمكن أن ُيجبر شخص على القيام بأعمال خارجية على خلاف ما يعتقده لكن هذا ليس هو الدين، فالدين لما كان من أفعال القلوب أولا وبالذات، فإنه لا يقبل الإكراه .
الاتجاه الثالث: يرى أن الآية المباركة تتحدث عن أنه لا توجد أحكام إكراهية في الدين (دين الإسلام) أو عموم الدين الالهي. مثلما أنه لا توجد أحكام ضررية، ولا حرجية "ما جعل عليكم في الدين من حرج". ومن ثم فإن مثل هذه العناوين هي بمنزلة العناوين الثانوية الحاكمة على سائر العناوين الأولية في الأحكام الشرعية، فإن تحقق من شيءٍ ضررٌ فهو لم يجعل من قبل الشرع وإنما يرتفع، ولو لزم من أمرٍ الحرجُ فإنه موضوع عن المكلف وهكذا بالنسبة للإكراه .
نخلص مما سبق إلى نتيجة: أنه مع وجود هذه الأصول المحكمة والقيم الراسخة، لا يمكن أن تأتي تشريعات الإسلام في تفاصيلها على خلافها، بأن تكون القيم الأصلية رأسها الحرية بينما يكون التشريع التفصيلي مؤديا إلى العبودية! أو أن تكون الأصول على الحق والتعقل، بينما تؤدي التشريعات إلى الباطل والجهل، أو أن تنطلق الشريعة من العدل الالهي لتكرس الظلم البشري! فهذا لا يمكن أبداً.
وإنما مقتضى الانسجام بين الأصول العامة، والتشريعات التفصيلية أن تكون الثانية شاربة من منبع الأولى ومستمدة منها .
ولهذا كانت حرية التفكير كعمل من أعمال المكلفين، وبعد ذلك حرية التعبير عن الرأي والفكر منسجمة مع ما تقدم من الأصول التي تم فيها التأكيد على رفض الإكراه وتقييد الحريات، ولذا رأينا القرآن يدعو إلى التأمل والاعتبار، والسير في الأرض لتحصيل المعرفة من خلال التفكر.
|
|