النهوض الحضاري ودعامتا الإيمان والمسؤولية
|
*كريم الموسوي
لكل شيء ظاهر وجوهر، وهذه قاعدة تنطبق على جميع المظاهـر والكائنات في هذا الوجود. والأمم ليست مستثناة من هذه القاعـدة، فلكل أمة مظهرها البادي للعيان وجوهرها الباطن. ومظاهر الأمم هي هذه التي نشاهدها، ونسمع بها من مثل الثروات الطائلـة، والجيوش الجرارة، والاعلام الضخم، والاقتصاد المزدهر والعقود والاتفاقيات والتحالفات المختلفة وما الى ذلك من المظاهر البارزة.
ولكن ماذا عن الجواهر؟ فمن الجدير بكل متابع للشأن الثقافي على صعيده الحضاري أن يعرف الجانب أو الوجه الآخر للأمم والحضارات، واذا قرأنا وتدبرنا في آيات القرآن الكريم سنجد الإجابة الواضحة والشافية، حيث يحدد الكتاب المجيد علامتين لمقياس جوهر الأمم:
العلامة الأولى: الايمان..
والمراد بالايمان هو تسليم القلب للرب. فمادام الرب تعالى هو الحق، فان الايمان يعني ايضاً تسليم القلب للحق، وتفاعله مع حقائق الكون الجوهرية الناصعة. فالبعض يزعم ان الايمان هو مجرد ترديد اللسان لعبارة التوحيد، في حين انه أبعد من ذلك وأعظم. فهو الايمان برسالات الله تعالى وشرائعه، واحكامه، ومن ثم التسليم، والعمل بتلك الشرائع والاحكام الالهية، لان التنفيذ والعمل هما دليل حصول التسليم. وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (لأنسبن الاسلام نسبة لا ينسبه أحدٌ قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلاّ بمثل ذلك: ان الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الاقرار، والاقرار هو العمل، والعمل هو الأداء. وفي الحقيقة فان هذه الكلمة مستوحاة من حديث الامام الصادق (عليه السلام) الذي يقول فيه: (الايمان اقرار باللسان وعقد بالقلب وعمل بالاركان).
ولذلك نجد ان المؤمنين بالمعنى الذي اتضح لنا يمثلون قلة في المجتمع، والقرآن الكريم يؤكد على هذا الواقع الاجتماعي في قوله: "وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ" (يوسف/103).
وبناء على ذلك فان الايمان ليس مجرد كلمة تنطق وحسب، فالايمان هذا المستوى الرفيع الراقي من الانسانية بحاجة الى مسيرة كاملة. وعلى سبيل المثال فان النبي ابراهيم الخليل (عليه السلام) لم يتحول الى انسان مؤمن إلاّ بعد ان اجتاز طريقاً طويلاً وصعباً، ولذلك فان الله عز وجل عندما يثني على انبيائه ورسله فانه يصفهم بالصلاح والعبوديـة، فيقول تعالى عن كل منهم : "وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُم مِنَ الصَّالِحِينَ" (الانبياء/86). أي ان هذا الانسان الذي حُمِّل عبء النبوة قد سما وارتقى حتى بلغ مابلغ من الصلاح والايمان والعبودية لله تعالى.
ولذلك لم يكن الصلاح والايمان بالسهولة التي نتصورها، فهما يمثلان قمة الكمال السامقة التي لايصل اليها إلاّ القلة من الناس. وإذا فرضنا ان البعض منهم بلغ مبلغ الايمان، فانه سرعان ما يتهاوى - في الغالب - عن تلك القمة إلاّ القليل ممن أنعم الله تعالى عليهم، ولذلك فقد قال سبحانه: "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" (سبأ/13(.
وهذا هو ديدن القرآن، فليست فيه اشارة ايجابية الى الكثرة. فهو لايتحدث عن الأكثرية عندما يطري ويمدح، بل يشير الى القلة القليلة. فهو عندما يشير الى الأكثرية فان إشارته هذه هي في الغالب إشارة سلبية كقوله تعالى: "وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِ كَارِهُونَ } (المؤمنون/70).
والسبب في ذلك نجده ونلمسه في الواقع الاجتماعي المعاش، وهو يشمل جميع أصعدة الحياة من حيث سلم الرقي في كل صعيد. فالذين يبلغون قمم العلم، سواء على صعيد العقيدة او العلوم الطبيعية والانسانية المختلفة، ربما لايتجاوزون عدد الاصابع في المجتمعات الانسانية المختلفة. وهذه هي سمة سائدة في الوجود والحياة، فالاشياء الثمينة والمفضلة يتّصف وجودها بالندرة والقلة.
العلامة الثانية: الالتزام المسؤول..
وهي التصدي للمسؤولية، و نقرأ الاشارة الى ذلك في القرآن الكريم: "كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" (آل عمران/110(.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا فريضتين منفصلتين عن الايمان، بل هما ملازمتان له. فالانسان المؤمن لايكتفي ان يكون مؤمناً في حدود ذاته وحسب فيركن الى الراحة والجلوس دون ان يكون له شأن بغيره من اخوته، إنما هو طاقة متفجرة تحركه من اجل دعوة الناس الى الايمان والصلاح، فلا يهدأ ولايقر له قرار حتى يبلغ ما بلغه من الايمان، وما اعتقده من عقيدة لغيره في مجتمعه او المجتمعات الأخرى، ذلك لان قلبه متوهج بالايمان، وهو بطبيعته يمثل كتلة متفجرة تشع ضياء وحرارة أينما وضعتها، فكيف به إذا رأى واقعاً فاسداً متردياً ؟
وعلى هذا فان التصدي للمسؤولية، وتحمل اعبائها تُعد العلامة والسمة الثانية من سمات ابناء الأمة الفاعلة، وإذا فقدت هذه السمة فان الأمة ستصاب بما يعرضها للهزيمة والدمار والاندثار. فالامة التي تفقد الايمان و روح المسؤولية، تصاب بنقص المناعة الذاتية، فتكون عرضة للانهيار والسقوط لأدنى مشكلة او عارض خارجي يداهم كيانها.
والقرآن الكريم يوضح في صريح آياته هذين الشرطين الاساسيين لفاعلية وتقدم الأمة ورقيها نحو الكمال، ومن ذلك يتبين ان المجتمع المؤمن هو ذلك المجتمع الفاعل المتكامل المتحدي والقادر على مقاومة الهزات ومجابهة العواصف. ولكي يكون كذلك لابد له من الايمان الحقيقي بالله تعالى، ورسالاته، وسننه الكونية، والتصدي للمسؤولية، كما يقول الحديث الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
ومن هنا يتبين لنا ان المسؤولية ذات اطارين هما؛ المسؤولية في اطار الأمة، والمسؤولية في اطار الفرد. وهذا يعني ان المسؤولية لاتسقط عن الفرد كفرد ان تنصلت الغالبية في المجتمع عن حمل اعباء المسؤولية. فليس للانسان ان ينحرف بذريعة ان الأمة سائرة في سبيل الانحراف والاعوجاج، إذ لابد للفرد من ان يتحمل مسؤوليته، حتى وان تملّص المجتمع من حمل اعباء المسؤولية الجماعية. فكلا المسؤوليتين قائمتان، ولكن انعدام احداهما لايعني بالضرورة انعدام الأخرى.
فليصلح الانسان نفسه، وليتحمل ويؤد مسؤولياته، والله سبحانه وتعالى يتكفل بانقاذه مما يصيب المجتمع والامة الفاسدة من عواقب فسادها. وعلى سبيل المثال فان نوحاً (عليه السلام) واتباعه لم يشملهم الطوفان، فنجوا بسفينتهم، و ورثوا الارض بعد ان غرقت كلها، وهلك الكافرون والعصاة بسبب ذلك الطوفــان العظيـم. فالله تقدست اسماؤه يأخذ المذنب فقط حين العذاب والانتقام، اما الانسان المؤمن فلابد من ان يجد لنفسه مخرجـاً وسبيـلاً يقيـه شـر العذاب، وهو ذلك المؤمن الحقيقي الذي يتحمل مسؤولياته، ويعمل بها كما يقول تعالى: "يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ" (آل عمران/114)، ثم يمضـي السياق ليؤكد على حقيقة الجزاء بالاعمال بما يلــي: "وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْــرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِيــنَ" (آل عمران/115).
فالله سبحانه لايضيع عنده عمل عامل؛ فالذي يفعل الخير والصالحات - سواء عاش في مجتمع صالح او طالح - فانه سيجد ثوابه كاملاً عند الله، وينال جزاء عمله دون ان يضيع أجره. فهو سبحانه أعلم بالمتقين الذين يستقيمون، ويثبتون على طول الخط، ولا يسقطهم الانحراف والفساد الاجتماعيان، وهذه سنة الهية ثابتـة.
بعد أن عرفنا القاعدة التي على أساسها يقوم النهوض الحضاري، لكن ما هو السبيل الى ذلك؟ وما هي الآلية؟
للاجابة على هذا السؤال نقول انه يتم من خلال توفير ثلاثة شروط هي:
1- التكامل الروحي:
فكل انسان مؤمن يحتاج لبناء شخصيته الايمانية الى التكامل، وهو ان يبلغ الواحد منا قمة التسامي التي توصله الى الجنة مادام هدف المؤمن هو رضى الله تعالى والخلاص من نار جهنم، والفوز بجنة الخلد.
وعندما نطالع القرآن الكريم ونتصفح الاحاديث النبوية والروايات الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام يتضح لنا ان شرط دخول الجنة هو ان ترجح كفة الاعمال الصالحة في ميزان القيامة على كفة السيئات.
ولعل سبيل الجهاد هو اقصر الطرق التي توصل المؤمن الى هدفه الاخروي، كما يشير الى ذلك سبحانه في قوله: " إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً" (التوبة/111).
ومن شروط التكامل الروحي ان يتطهر قلب المؤمن من الصفات والعوامل السلبية في الاخلاق والسلوك الاجتماعي؛ كأن يطرد الحسد من قلبه، ويبتعد عن الاحقاد، ويميت الانانيات وما الى ذلك من الصفات السيئة. فكل واحدة من هذه الصفات والعوامل قد تكون سبباً في سقوط الانسان وحرمانه من جنات النعيم.
2- التكامل العميق:
وهو ان يستخدم الانسان كل ما لديه من الطاقات والمواهب، ويوظفها في خدمة قضيته، فانه مسؤول غداً امام الله عز وجل إذا لم يستخدم ما اعطاه من هذه المواهب كسلاح لمقارعة الطغاة الذين يضطهدونه ويضطهدون شعبه.
3- التكامل التنظيمي:
وهو ان يتعاون الافراد في المجتمع على العمل على الصعيد الاجتماعي. فالقرآن الكريم يقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة/2). ونحن كأمة اسلامية نتبع الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي هو امامنا وقائدنا، عندما نجتمع ونتعاون فاننا سنشكل قوة لاتضاهيها قوة أخرى. فالله سبحانه عندما خلق الناس مختلفين في الوانهم واشكالهم ومواهبهم ونفوسهم، فانه دعاهم في نفس الوقت الى التعاون والتآزر فيما بينهم ليكمل بعضهم البعض، وليسفر عن اجتماعهم وتعاونهم محصلة قوة منسجمة فاعلة تسير بالمجتمع نحو التطور والرقي، وتحميه من مخاطر الاعداء.
وإذا ما استطعنا ان نطور انفسنا من خلال تلك الشروط الثلاثة وهي (التكامل الروحي) و (التكامل العميق) و (التكامل التنظيمي) فاننا سنختصر الزمن في مسيرتنا التكاملية الحضارية، ولذلك يجب الاعتماد على انفسنا كأفراد وتنظيمات في العمل على انقاذ انفسنا ومجتمعاتنا مما نحن عليه من الظلم والدمار والاوضاع المؤلمة التي نعيشها.
|
|