القنوات العراقية بين الاهداف السامية والمصالح الخاصة
|
*محمود حسين
من ثمار التغيير الكبير في التاسع من نيسان عام 2003 مبادرة جهات عراقية عديدة لإنشاء قنوات تلفزيونية فضائية، مستفيدة من أجواء الحرية التي حُرم منها العراقيون من قبل النظام السابق، وكان الهدف من حيث المبدأ هو ايصال المعلومة والفكرة بشكل واضح وسريع وسهل الى المواطن العراقي المتعطش اساساً للفكر والثقافة، وفائدة هذا النوع من البث التلفزيوني بانه يشكل جسراً اعلامياً بين الاجواء المحلية والاجواء العالمية، وليس كما يفعله البث الارضي الخاص بمنطقة معينة، لذا كان الأمل الكبير في هذه القنوات بان تنقل الى العالم الصورة الناصعة لحضارة وادي الرافدين العظيمة، وتعريف الشعوب بثقافة وهوية الشعب العراقي، بالمقابل تنقل للشعب العراقي العلوم والثقافات والمعارف بما ينسجم مع هوية وثقافة هذا الشعب من خلال برامج ثقافية وتعليمية ودينية.
واذا القينا نظرة سريعة الى الخلف حيث كان لدينا قناة (بغداد الاولى)، التي تعرض برامج متنوعة تختص بمنهج النظام البائد، اما القناة الثانية (قناة الشباب)، التـي كانت توجه اكثر برامجها الى الشباب بالدرجة الاولى، نجد حجم المسؤولية والامانة الملقاة على عاتق المعنيين بالاعلام المرئي، فقد غزت اسواقنا أنواع الاجهزة المستقبلة للقنوات الفضائية مع مستلزماتها، كما غزت بيوتنا وغرفنا مئات القنوات الفضائية، بل نلاحظ اليوم حتى بعض المحال التجارية لاتفوته ان ينصب التلفاز مع جهاز (الستلايت)، ليكون ضمن اثاثه. لكن السؤال هنا: اين اصبح دور القنوات العراقية الفضائية في هذا المعترك الاعلامي الصاخب؟
بلغ عدد القنوات العراقية الفضائية حوالي عشرين قناة حالياً، وهي موزعة على اهتمامات وتوجهات سياسية وعقائدية مختلفة، ومهما كان من خطابها الاعلامي، لا ننكر دورها الكبير والمباشر في رفع مستوى الثقافة والمعرفة لدى المواطن العراقي لاسيما بعد دخول مفاهيم جديدة عليه من قبيل (الديمقراطية) و(المجتمع المدني) و(العملية السياسية) وغيرها، كما نشير - للامانة والموضوعية- الى تغطية الجانب الانساني في الحدث العراقي، اذ ان مجرد ظهور اطفال ونساء متضررين من احداث العنف والارهاب الطائفي، وهم يتلقون الرعاية والعناية من لدن جهات او اشخاص خيرين، بحد ذاتها تبين ان العراق مازال في خير وعافية، بل وتشجع الآخرين سواء في داخل العراق أم خارجه لمد يد العون والمساعدة لهؤلاء الضحايا الابرياء. كما انها تشكل رسالة قوية ومفحمة للمسؤولين بتوجيه اكثر الجهد والعناية لهذه الشريحة.
لكن هذا ليس كل شيء، اذ يبدو ان القضية لم تكن دون ثمن، اذ ان بعض القنوات التي تتحدث عن واقع الناس ومعاناتهم وتتغنى بتاريخهم، بدأت تروج بشكل واضح ومقصود للثقافة الغربية، بل وتواجه تقاليد وعقائد الناس، وهي تعرف ان الشعب العراقي بمعظمه شعب محافظ على القيم الدينية لاسيما ما يتعلق بالمرأة وقضايا الأسرة وعموم المسائل الاجتماعية، فبدأ التحدي واضحاً كما لو ان تلكم القنوات التي تبث من الخارج تريد ان تسوق للعراقيين فكرة (العولمة) الى الشعب العراقي، ومعروف ان هذه الفكرة الغربية المنشأ ترمي أولاً وأخيراً الى تذويب الثقافات والديانات وصهرها في بوتقة واحدة متمثلة في الفكر المادي الذي يجعل الانسان لا يفكر الا في طعامه ومنامه وشهواته. وهنا تحديداً تكمن المغالطة الكبيرة، فالشعب العراقي هو أحوج ما يكون الى العودة لثقافته وهويته التي شوهها النظام البائد بمغامراته وسياساته الجنونية، ولا يجهل ارباب الاقلام والاموال والافكار المسؤولين عن بعض القنوات الفضائية ان الشعب العراقي لم يكن جائعاً عندما تخلص من صنم بغداد، انما التجاذبات السياسية داخل وخارج العراق هي التي جرته الى هذه الويلات والمعاناة.
وهذا ماحصل فعلاً... فقد فضلت بعض القنوات توجهاتها الخاصة على مصالح الشعب العراقي، والمثير في الأمر ان كل قناة تصور نفسها (الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي)، فبعضها عبرت عن هذا الشعب بحفلات الغناء والرقص! والبعض الآخر عبر من خلال حثّ الناس على حمل السلاح بوجه من يصفونهم بـ (المحتل) وعدم التخلّي عن خيار الحرب والقتال، كما كانت لهجة صدام في العقود الماضية، والبعض الآخر عبر من خلال تكريس واقع الألم والحزن والتخلف الذي يحيط بالمجتمع العراقي، كما لو انه أمر واقع لابد من معايشته. كل ذلك والحلول غائبة والبديل مفقود، فهل ان هذا الشعب يفتقد للقدوة الحسنة التي يهتدي من خلالها الى حياة افضل؟ وهل يفتقد للنظم والقوانين الاجتماعية والاقتصادية التي تمكنه من تسيير شؤونه بما يضمن حقوق الجميع، كما كان عليه الحال خلال اربعة عشر قرناً من الزمن؟
المفارقة هنا، ان جميع تلكم القنوات مدعومة بالمال الذي يعد اليوم عامل بقاء القناة تبث عبر الاقمار الصناعية، ما عدا البعض الذي يعكس هوية هذا الشعب ويربطه بحضارته الاسلامية العريقة، فانها تعاني المشاكل المالية وتواجه الانذار بسحب ترخيص البثّ، وهي تنقل المفاهيم والقيم والنموذج الذي لا يجرؤ أحد طوال القرون الماضية على تفنيدها او النيل منها والتقليل من شأنها، لأنها تصدر من شخصيات عظيمة معترف بها عالمياً مثل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وخليفته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والصديقة الزهراء والأئمة المعصومون عليهم السلام، الذين تزخر كتب التاريخ والسير بمآثرهم وانجازاتهم على الاصعدة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
|
|