الشيخ هادي الكربلائي شاعراً
|
حسن هادي محمد حسين
الشيخ هادي الكربلائي الفارس الذي أطل من صهوة المنبر الحسيني على أنصع صفحة من التاريخ البشري، صفحة الثورة الحسينية الخالدة، فراح يؤكد عمق الانتماء التاريخي لمدينة كربلاء برمزها الخالد الإمام الحسين ومن خلال إيمانه المطلق وعقيدته الصادقة بقضية الإمام الحسين فدخل الشيخ هادي الكربلائي قلوب الناس بوجهه النيّر وصوته الشجي المليء بالحزن والأسى واللوعة، فاصطبغت مراثيه بصبغة الحزن العاشورائي الأصيل واكتسبت طابعه النبيل فكان لنشيجه المفجع عند ذكره للصور المأساوية في مقتل الحسين صدى وأثر كبير في النفوس وإثارتها على البكاء، فكان (بشر بن حذلم) كربلاء ببكائه وحزنه ودموعه، فالحدث الحسيني كان حاضراً دائماً في ذهنه ولم يغب عن باله، فكان يراه في كل مايثير أشجانه ولواعجه.
كان لمنبره حضور جماهيري واسع وصدى كبير في جميع الأوساط ومختلف الطبقات، يقول عنه السيد داخل السيد حسن صاحب كتاب من لا يحضره الخطيب: (الشيخ هادي الكربلائي مدرسة مستقلة في الخطابة الحسينية الخالصة، منفرد بإسلوبه النائح، متميز بصوته الشجي الساخن، مجيد لمختلف الطرائق والأطوار المنبرية، وخصوصاً الطريقة الفائزية المشهورة، والتي يتفاعل معها الجمهور لاسيما الجماهير الحسينية في الخليج)، وقال عنه الشيخ عبد الحميد المهاجر: (الشيخ هادي، صوت الحزن، ومرفأ الدمعة).
لقد خلا قلب شيخنا من كل حب سوى حب الحسين فكانت علاقته بكربلاء حميمية إذ كان يشم في ترابها عطر الإمامة وأريج النبوة فلم يفارقها منذ سكنها واقتصرت خطابته على تربتها حصراً ولم يخطب في أي بلد آخر برغم الإلحاح المتواصل من قبل بعض محبي منبره.
ولد الشيخ هادي صالح مهدي درويش آل عجام الخفاجي بمحلة الشيخ بشار في بغداد عام 1908 وسكن كربلاء حتى وفاته عام 1992 وتلقى تعليمه على يد والده حتى إذا صلب عوده دخل مدرسة الصدر الأعظم والمدرسة الزينبية وأتجه نحو الخطابة متتلمذاً على يد خطيب كربلاء الشيخ محسن أبو الحب، لقد كان شيخنا صاحب رسالة، أخلص للمنبر الحسيني ونذر له نفسه حتى آخر لحظة من عمره وقد فتح له المنبر آفاقاً واسعة فأخذ الشعر يجري على لسانه، فقد كان شعر الفطرة إذ استمد أغلب شعره من واقعة كربلاء ووظفها في شعره واستلهم مواقف الإمام الحسين (ع) في قضيته العادلة التي آمن بها شيخنا أو (شاعرنا) فأخذ يتغنى بشخصية الإمام ومبادئه وبطولته وتضحيته مازجاً ذلك بالحزن والأسى لما جرى على الإمام الحسين في كربلاء، يقول شاعرنا في احدى قصائده مصوراً مشهد الإمام الحسين (ع) فريداً وقد قتل أهل بيته وأصحابه:
فقدَ الأحبةَ والحماة بكربلا وبقى فريداً لا يرى من منجدِ
لم أنسه لما رأى أهل الوفا صرعى على حرِّ الثرى المتوقِّدِ
ناداهم يا أخوتي وأحبتي شملي انثنى من بعدكم بتبددِ
قوموا انظروا ماحلَّ بي من بعدكم ففراقكم يا أهل ودي مجهدي
قطع الرجا منهم وعاد مودّعاً حرمَ المهيمن من عقائل أحمدِ
اعتمد الشاعر في هذا الأسلوب من التصوير على الوصف المباشر فصورة الإمام الحسين (ع) في هذه الأبيات صورة وصفية اكتسبت فنيتها وتأثيرها من خلال تركيز الشاعر على النبرة الخطابية ويلاحظ ذلك من خلال كلمات (ناداهم، قوموا، ففراقكم) كما ركز الشاعر في ديوانه على مواقف نساء الحسين لما في ذلك من أثر فعال في النفوس ولاسيما ما توحيه صورة المرأة الثكلى من عواطف مؤثرة فيقول:
فبرزن من حرم الإله لندبه ولهى بنعيٍ موجعٍ وتوجُّدِ
وعليه درن صوارخاً ونوادباً ولنعيها قد ذاب صمُّ الجلمدِ
وأشدّها حرقاً عقيلة حيدرٍ تدعو أخاها السبط في قلبٍ صدي
من بعد فقدك ياحمانا ملجأٌ للحائرات ولليتامى الفقَّدِ
من ذا ترى يحمي حماها إن غدت من ضرب أعداها تدافع باليدِ
فقد اعتمد الشاعر في رسم هذه اللوحة لنساء الحسين على ما توحيه الألفاظ من معانٍ حزينة (صوارخ، نوادب، حرقاً، تدعو، قلب صدي) وعلى تنويع الخطاب فكان التفجع في أسلوب الاستفهام قد اضاف بعداً مأساوياً ولا سيما وأنه ورد على لسان السيدة زينب (ع) ولعل اختيار الشاعر لهذه الألفاظ الحزينة والتركيز عليها نابع من كونها مصدر إثارة النفوس وتحفيزها على البكاء ولكونها أيضاً تنسجم تماماً مع الأطوار التي يجيدها وهذا ما يؤكده الشيخ عبد الحميد المهاجر عندما قال عنه: (الشيخ هادي رحمه الله كان موفقاً ليس فقط في اختيار الشعر للقراءة وإنما في اعطائه حقه في الصوت الحزين المؤثر) فجاءت قصائده الرثائية الحسينية من أولها الى آخرها كربلائية النفس حسينية المعاني. ورغم طابع الحزن والتفجع الذي غلب على مراثي شاعرنا الحسينية إلا أن هذه المراثي لم تكن حزناً كلها إنما وجد في مقابل هذا الحزن الشجاعة والبطولة والإباء التي تجسدت في أبطال الطف وهم يستلهمونها من أبي الإباء الإمام الحسين (ع) وقد تجلت هذه الصفات بأزهى صورها في شخصية علي الأكبر (ع) شبيه المصطفى (ص) ووارث صولة المرتضى (ع) وهذا ما وقف عنده شاعرنا:
منهم شبيه محمد لما سطا بجموعهم وبكفِّه البتارُ
أضحى يبيد قرومهم بحسامه حتى جرت بدمائهم أنهارُ
من صيدهم من قال من رُعبٍ به هذا النبي المصطفى المختارُ
أم حيدر الكرار ذا ما بينكم وافى فطالتكم به الأقدارُ
فهناك ناداهم بصوت معلماً مذكرّ فيهم: جده الكرارُ
والطهر سبط المصطفى هو والد هذا حسين من له أنوارُ
كما يستذكر شاعرنا (القاسم بن الحسن) الشاب الذي سقط شهيداً على ثرى الطف هذا الشاب الذي واجه عسكر بني أمية منفرداً وهذا بحد ذاته درس رائع في الشجاعة والإقدام. لقد علّمت مبادئ الحسين (ع) الانسانية معنى الشجاعة والعزم يقول شاعرنا:
لكن شبلك قاسماً لما سطا عن عمَّه جلاَّ قتاماً غيهبا
أروى من الأعداء عضباً ظامياً وحشاه من حرِّ الظما قد أُلهبا
ما كرَّ فيهم باسماً بحسامه إلا ووجه الموت منه قطَّبا
كم قد فرى بالسيف أوداجاً وكم قرماً بيوم نزاله قد أرعبا
لقد كان الشاعر يستحضر أمامه مواقف ابطال الطف ليوظفها في أبياته ومن أهم الأسماء في ذلك اليوم التي لازمت الإمام الحسين (ع) السيدة زينب بنت علي (ع) بطلة كربلاء والتي كانت جزءاً مهماً من مأساة الطف حيث يوحي أسمها الى قيمة كبرى تتمثل في إضفاء الطابع التراجيدي الحزين المعبر. لقد رسم الشاعر من موقفها حالة من الحزن وقيمة معبرة لفجيعتها وتحملها أعباء المسؤولية بعد ما حلَّ بأهلها:
وبنات الهدى برزن حيارى تندبُ الندبَ والهُمامَ الكريما
وامامَ النساء حِلف الرزايا زينبٌ من غدت تقاسي العظيما
تندبُ السبط والدموع هوامي ولظى الوجد في الفؤاد أُقيما
حرَّ قلبي لقلبها مذ رأته وبنو الشرك منه حزُّوا الكريما
يا أخي من ترى يذود الأعادي بعدكم من ترى يحامي اليتيما؟
لقد كانت ثورة الحسين الأمتداد الطبيعي لدعوة الرسول محمد (ص) فمع الحسين يكتسب الوجود معناه ويتجلى الإسلام بجوهره وحقيقته الناصعة، لقد آمن الحسين بقضيته العادلة والتي هي قضية جده (ص) واستعد للموت والتضحية من أجله وهذا ما وظفه شاعرنا بقوله:
لستُ أنسى الحسين حين تلقّى من عداه بالطف خطباً جسيما
طلبوا منه أن يبايع رجساً من بني حرب فاسقاً وزنيما
فأبى السبط شاهراً لحسام فيه يسقي العدى شراباً حميما
ما سطا باسماً على الخيل إلا ترك الشوس في الرغامِ رميما
بعد ما شاد للهدى ما تداعى ووفى للإله عهداً قديما
لقد صاغ الشاعر فكرته من مبدأ (الإسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء) والذي أكدته الثورة الحسينية الخالدة في ضمير الزمن على الرغم من تباعد الحقب بوصفها درساً متجدداً ومستمراً باستمرار الصراع بين الخير والشر وهناك نقطة اساسية يركز عليها الشاعر في مراثيه وهي المنزلة العظيمة للإمام الحسين وعدالة قضيته وتضحيته في سبيلها مما يترتب على ذلك أن يكون الإمام شفيعاً لمحبيه وأنصاره. إن ملازمة الحزن لطلب شفاعة الحسين في مراثي شاعرنا دليل واضح على إيمانه بشفاعة الحسين ومما أعطاه الله للحسين أن يغفر لمن نصره ولو ببيت شعر أو بدمعة حزن يقول شاعرنا:
يا ابن الحسين السبط اي نور الهدى إني سواكم قطّ لا أختارُ
أرجو الشفاعة منكم يوم الجزا فلقد أضرّت هادي الأوزارُ
لقد جعل شاعرنا من شفاعة أهل البيت (ع) وسيلة للخلاص والنجاة وهو يتكلم بلهجة الواثق المطمئن لرسوخ مبدأ شفاعتهم (ع) يوم القيامة وقد أتخذ من قول الإمام الصادق (ع): (من قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتا في الجنة) حافزاً لأن يقول:
يا آل طه هاكم مرثية وافى بها هادي ويرجو في غدِ
ينجو من العقبى ومن أهوالها ومن الجحيم وفي هداكم يهتدي
إن تكرار طلب الشفاعة يحمل أبعاداً عقائدية تتمثل في إيمان الشاعر بمنزلة أهل البيت (ع) ووجاهتهم عند الله بوصفهم الوسيلة إليه للشفاعة فهو من خلال مرثيته يرجو قبول عمله الذي هو خير وسيلة لديه يحاول من خلالها أن ينال حسن القبول والوصول الى مرضاة الله:
أأخا الشهيد أتاك هادي راجياً حسن القبول ومن جنابك طالبا
ما أنت أعلم فيه يا بن المصطفى ما آب سائلكم وولى خائبا
لقد كان يوم الطف ومواقف أبطاله الخالدين هو المنبع الثر الذي استقى منه شاعرنا لقد عشق الحسين واستلهم منه دروس الشجاعة والإباء وبكاه بكاء المفجوع ووقف خاشعاً أمام ذلك النور القدسي راجياً الدخول الى تلك الدوحة النورانية طالباًَ الشفاعة منه اللهم احشره مع محمد وآل محمد.
|
|