قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

(مأسسة) المجتمع والطريق الى الدولة الناجحة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *عدنان الصالحي
تندرج الحاجة الى المؤسسات في الحياة اليوم ضمن ضرورة من ضروريات الحداثة والتطور وجزء أساس من تركيبة التنافس العلمي والاقتصادي من حيث انها خلاصة ما توصل له علماء الإدارة والاجتماع في أفضل طرق لإدارة الدول ونجاحها وديمومتها. لذا كانت الحاجة الى (مأسسة) ملازمة للتقدم والتطور والاستقرار السياسي والاقتصادي، كحال المجتمع التي تشكل العائلة نواة لتحقيق حالته الاجتماعية ومن ثم تماسكه واستقراره وأمنه.
بيد ان الإشكالية التي تعاني منها بعض الدول الناشئة التي قد تندرج تحت مسمى الدولة الفاشلة، تأتي من فهم طبيعة المؤسسات التي تدير الحياة وتنبثق منها، فهي تعد المؤسسات الرسمية التابعة للحكومة وحدها التي تقومها وتؤسس نجاحها، وهذا وان كان ضروريا لفعل ذلك من حيث إدارة أمور الدولة وتنفيذ قراراتها وتقديم خدماتها لمواطنيها وما الى غير ذلك من الجوانب الفنية والإدارية، إلا إن ما تنهض به الدول والمجتمعات عموما من مؤسسات غير رسمية ولا تخضع لسلطة الحكومة، بل ترتقي الى الاستقلالية وتحقق استقرار الدولة والدفاع عن مصالح الافراد والجماعات العامة، من حيث الرقابة والمحاسبة، والمشاركة في رسم سياسة البلاد بالتعاون مع الحكومة المنتخبة وهي غير خاضعة لتوجيهات الحكومة بقدر خضوعها لدستور البلاد، وللعرف الأخلاقي والاجتماعي لذلك البلد.
والمؤسسة هي كلمة ذات دلالات متشابكة، تأخذ في علم الاجتماع السياسي تعريفات عدة فيعرفها (سي جي فريدريش) بأنها (مجموعة أعمال سياسية منظمة و مستقرة تقوم بوظيفة أو تهدف إلى غاية داخل النظام السياسي) ويعرفها (ماكس فيبر) بأنها (جماعات تصدر أو تتخذ إجراءاتها القانونية بنجاح نسبي داخل إطار من العمل المحدد، لأولئك الذين يعملون بطريقة قابلة للتحديد حسب معايير محددة).
تتكون المؤسسات من مركبات عدة، منها: الأفراد والمجموعات والتكنولوجيا والهيكل التنظيمي الذي تمارس فيه بعض العمليات الإدارية مثل التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة والاتصال واتخاذ القرار والقيادة، وتتضمن العمليات التنظيمية تفاعل الأجزاء وتداخلها لتحقيق الأهداف ضمن بيئة أكبر، بعواملها السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والحضارية المختلفة، ومن الطبيعي أن تؤثر التنظيمات في هذه البيئات وتتأثر بها إلى حد كبير، تحيط بالمؤسسة عدة عوامل تؤثر وتتأثر فيها وتسمى بيئة المؤسسة، وتتكون من جزئين: (البيئة الداخلية للمؤسسة) و(البيئة الخارجية للمؤسسة).
من أهم تلك المؤسسات المشتركة في بناء الحياة والدول ومراقبة الحكومات تتمثل في:
1- المؤسسة الدينية: حيث تمثل ثقلا أساسياً في توجهات المجتمع لمحاربة التسلط والاستبداد والدكتاتورية وصمام أمان للشعوب في إيجاد حياة تسير وفق مفاهيم وقيم اخلاقية ودينية تصون الفرد من الانزلاق في الطرق المنحرفة، او التأثر بالافكار الدخيلة والهدامة، بل إن السبب الأول لبعث الأنبياء والرسل هو لإقامة دولة الحق والعدل والإنصاف بين بني البشر وهي لا تنتج الا بمؤسسات مختلفة ومتنوعة وليست سلطة حديدية حاكمة، وغني عن البيان أن مسؤولية علماء الدين، هي امتداد لخط المصلحين عبر التاريخ وهي مسؤولية كبيرة بالدفاع عن حقوق البشرية وضمان دفع جور المتسلطين عنها. وفي هذا السياق يقول سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (الفارق بين الإنسان وسائر الكائنات هو عقلانيته وروحانية عمله، فما يحتاجه الإنسان كجزء من التركيبة الاجتماعية، من الأمور نابعة من نفسه وروحه كونه مرتبطا بالسماء كارتباطه بالأرض، فإذا تمكن من السير في النسق الصحيح والارتباط بين هذه الجهات المختلفة، كان المجتمع مجتمعا، والمجتمع المحتوي على مثل هذه اللبنات الإنسانية – المؤسسات- مجتمعا سليما بينما إذا لم يتمكن من تصحيح مسيره كان مجتمعا غير سليم).
2- المؤسسة السياسية: يجمع فقهاء القانون الدستوري على ان الأحزاب ضرورة من ضرورات بناء دولة المؤسسات، بحيث لا يمكن الادعاء بوجود ديمقراطية حقيقية بدون وجود أحزاب تمارس نشاطها المعتاد، وتجري المنافسة السلمية والسليمة بين هذه الأحزاب من خلال صندوق الاقتراع وبرامج العمل السياسي، حيث يرى الفيلسوف الفرنسي (بوردو) في إحدى مؤلفاته، (أن من الطبيعي أن تكون السلطة من نصيب الغالب في صراع وتنافس يعتمدان على تصويت الناخبين، ولكن هذا لا يعني إلغاء باقي الخطوط السياسية)، فارتباط هذه الأحزاب بقواعد شعبية ومساحات مجتمعية تؤمن عدم التفرد بالسلطة من قبل جهة ما أو احتكارها لصالح فئة معينة بل إن مثل هذه التعددية يجب أن تكون العين الأمينة لقواعدها الشعبية في متابعة الأمور السياسية، لأننا نعرف أن الناس ليسوا بمستوى واحد من فهم العمل السياسي وخاصة بسطاء المجتمع، ولذلك فلابد من وجود من يمثلهم في فهم المعادلات السياسية والمراقبة بان لا تنتفخ الحكومات أكثر من حجمها القانوني، لتتحول في لحظة ما الى دولة تابعة بجميع أجزائها الى مؤسسات حكومية مسيرة بيد جهة واحدة سواء كانت شخصا أو حزبا.
3- المؤسسة القضائية: صمام الأمان الذي يجعل البلد يعيش بطمأنينة كبيرة كون وجوده يمثل حاجزا ورادعا لكل من يريد التعدي على حقوق الآخرين واتخاذ الطغيان منهجاً له، وبغض النظر عن الصفة أو الهوية التي يحملها، لذا كان الحذر من أن يكون القضاء مسيساً أو مسيراً من قوى اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، فانه لا يعدو آنئذ أن يكون أداة لتنفيذ وتحقيق مصالح شخصية ضيقة، بل وعامل لانتشار الظلم والتعسف ضد افراد المجتمع، ولذا فان الدول المتحضرة تجعل القضاء في مصاف علوية الدستور بحيث لا سلطة عليه إلا سلطة الدستور، وهو بدوره يملك قدرة دستورية واسعة لردع كل من يريد التجرؤ على حقوق الناس او التسلط على البلاد والعباد خصوصا بوجود قضاة يملكون شخصيات متجردة ذات قدرات قانونية وعلمية وأخلاقية.
4- المؤسسة المدنية (منظمات المجتمع المدني): وجود مؤسسات المجتمع المدني في أي بلد مؤشر على وجود حياة تعددية وديمقراطية، شريطة أن تكون تلك المنظمات واقعية لا واجهة للسلطة الحاكمة او بوابات ظاهرية لمشاريع سرية، ولأهمية تلك المؤسسات ودورها فان الحكومات الشمولية تحاول قدر الإمكان أما تغييبها أو تسييسها، فهي بمنزلة العين المراقبة لنشاط وأداء الحكومات ولا سلطة عليها سوى سلطة القانون والدستور الذي منحها حق العمل الميداني، ومن ذلك يمكن القول بان لمنظمات المجتمع المدني القدرة على إقامة دولة تتصف بالمؤسساتية فعلا في أي مجتمع إن عملت بسلطتها الدستورية والمهنية، ويمكنها أيضا أن تكون رديفا مهما في انضباط الحياة التعددية من جهة أخرى كون إن عدو المجتمع المدني ليس حرية الفرد ولا حرية الحكومة المنضبطة، بل الحرية المنفلتة لأحدهما أو للاثنين معا.
5- المؤسسة الإعلامية (السلطة الرابعة): والتي بدت في الآونة الأخيرة تتقدم بشكل مطرد نتيجة تطور وسائل الاتصال لتكون متغلغلة في جميع مفاصل الحياة وممتدة الى أبعد مناطق العالم، هذا التطور ولد زخم هائل للتأثير على المتلقي تمتاز به هذه السلطة عن باقي المجالات، لتجعل من مادتها الإعلامية سلاحاً كبيراً فهي قادرة للوصول الى المتلقي في أي مكان، سواء في بيته أو مقر عمله، بل وحتى وهو يسير في الشارع أو على متن حافلة أو فطار وذلك عبر الهاتف الجوال.
إن لسلطة الإعلام اليوم قدرة كبيرة على صون حقوق وحريات الناس بوقوفها ضد من يحاول التسلط أو التفرد بالحكم، و بلا شك فان من يمارس مثل هذا الدور هو الإعلام المهني المستقل، وإلا فان اغلب الجهات الرسمية وشبه الرسمية تمتلك إعلاما خاصا بها أيضا إلا انه لا يملك من الأمر شيئاً أكثر من تمجيدها وتجميل صورتها.
6- مؤسسة الرأي العام: من جانبه هو الأخر يتحمل مسؤولية مهمة في عدم تسلط الاستبداديين على مقاليد الأمور وخصوصا الشعوب التي تتمتع بحرية الانتخابات فهي قادرة على أن تكشف كل من ترى بان لديه قدرة نمو شخصية (الدكتاتور) والتفرعن تحت أي مسمى وإيجاد الشخص الذي يرى إن قوته ناتجة من قوة المجموع (أحزاب ومؤسسات دولة وقواعد شعبية) لا العكس، بحيث لا يرى لنفسه الفضل على أيا منها في وجودها او ديمومتها، بل لابد من استشعارها وإشعاره دائما بان لا قوة حقيقة إلا بمشاركة الجميع وان من يفكر بأنه (الأوحد الأفضل) فعليه أن يهيئ نفسه للسقوط في منزلق الفشل، أو الاعتراف بان القوة الحقيقة هي التي تعود الى مؤسسات تسند وتبني الدول.
إن الأسس التي انطلقت منها الدول الناجحة لم تكن وليدة فكر استبدادي او دكتاتوري لان اغلب الحضارات والانجازات شيدت بعقول جماعية مشتركة ومؤسسات بحثية في الميادين المختلفة، وعلى هذا المنطلق فان التوجه نحو دولة المؤسسات هو تأكيد لشراكة الإنسان ودفعه نحو التكامل بإيجاد حياة المصالح والمنافع المشتركة العامة، وأن لا حياة منفردة ومنعزلة عن الآخرين، بل إن الانفراد هو مقدمة للجمود والانعزال ومن ثم الموت البطيء، وكل ذلك يلخص معنى مفهوم الدولة الفاشلة.
*مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث