قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

لا لتداخل الخنادق.. نعم لإشراقة الأمل
وليد المشرفاوي
إن قراءة موضوعية للماضي.. لا يمكن لها إلا أن تخرج بنتيجة مفادها أن كل ما حصل من معاناة وسفك انهار من الدماء على الأرض العراقية يعود إلى وجود الداء المزمن والمشكلة الأم وهي الطائفية السياسية خصوصا مع غالبية الشعب العراقي المعروفة بانتمائها تحديدا.. ما يعني أن المكرس لهذا الداء هو قوى أجنبية حالت دون تفاهم أبناء العائلة العراقية الكبيرة وأنصاف بعضهم البعض الآخر وكان الله يحب المحسنين. لذا كان الاستبشار كبيرا بانهدام أسس تلك المعادلة السياسية الظالمة وسقوط الصنم رمز الاستبداد والظلم في 9/4/2003.. وكان إصرار عقلاء القوم الذين يرمون ببصرهم إلى ابعد مما تحت أقدامهم.. إنهم بإزاء تحقق الانتصار رغم ما رافقه من اضطراب، وعدم استقرار، ونقص خدمات، واهراق دماء.. بل اعتبروا كل تلك التضحيات ضريبة لابد منها لذلك الانتصار في واقع معقد استشرى في زواياه الباطل.. ووجود قوى أجنبية شاء القدر أن يكون لها نفوذٌ في ساحة العراق الجديد.. وقد تعاملت هذه القوى مع الواقع الجديد بازدواجية عجيبة.. فمن جهة بررت مشاركتها بإسقاط النظام الصدامي من منطلق الحرص على إيجاد الديمقراطية للعراق كما تدعي.. ومن جهة أخرى تضغط عليها مصالحها الستراتيجية للالتفاف على الديمقراطية، والوقوف في وجه آلياتها السليمة.. لكي تبني الواقع الجديد وفقا لمنطق المصالح لا منطق تحكيم إرادة الشعب..
ولو أن المكونات الرئيسية في الشعب العراقي قد تحررت بما فيه الكفاية من المؤثرات الخارجية لكان الأمر من السهولة بمكان للتفاهم كشركاء في هذا الوطن ولأتفقت كلمتهم على تحكيم مبدأ الانتخابات لتحقيق العدالة النسبية للجميع كل وفق حجمه الطبيعي على مستوى العراق، وكل وفق تأثيره في وسطه الاجتماعي ككتل وقوى سياسية ضمن كل مكون، وعلينا أن نقبل هذا المنطق كما هو في الواقع، لا كما هو في التنظير تحليقا في عالم المثاليات والآمال الخضراء..فكل مكون في العراق حاليا هو بصدد إثبات ذاته، وتمييز هويته، وهو لم يزل تحت تأثير هاجس الخوف من المستقبل.. والدليل على ذلك ما أفرزته الانتخابات السابقة، فلم يحصل المرشحون الشيعة من الأصوات في غير مناطقهم، كما لم يحصل الكورد على مثيلاتها في الجنوب، مع العلاقة الحسنة عموما ما بين الطرفين، وخلو التاريخ من اغماط حقوق أو وجود حالات احتكاك سلبية من قبل بعضها للبعض الآخر.. وما ينطبق عليها ينطبق على الآخرين بالضرورة. وقد تستمر هذه الصورة لسنين قادمة حتى يصل اليقين بحسن نوايا الأطراف المهمة الأخرى إلى حد الاطمئنان.. فتكون الصورة بإبعادها الوطنية هي محط أنظار الجميع، بلا حدود عرقية، ولا سدود طائفية.. ويكون الاختيار للأفضل والأكفأ والأخلص، بغض النظر عن انتماءه العرقي أو الطائفي..
ولن يتأتى ذلك أبدا إن لم تسد وحدة المشاعر، ويتلذذ الجميع بحلاوة الإخوة الوطنية من خلال سواقي القلوب.. لا من على صفحات الجرائد وحسب، وبكلمة أوضح، لا يتم ذلك إلا بتكريس ثقافة جديدة، ومنطق جديد يتناسب وروح الشراكة الحقيقية.. فلشديد الأسف لا زالت الكثير من تصرفات البعض وتعبيراتهم عن الواقع تذكر بتجذر الثقافة الصدامية بقصد أو بغير قصد، هذه الثقافة التي أوصلت الشعب العراقي إلى الذروة في التحسس الطائفي والاغتراب العراقي، والتقاطع العقائدي.. والغريب أن حملة هكذا ثقافة مجزئة ومشتتة للوحدة الوطنية يتظاهرون بانهم اشد الناس حماسا للتذكير بالقيم الوطنية، والتأكيد على عظمة العراق كما يرددون.. غير أنها كما كانت على لسان من سبقهم من أئمة الجور ليست سوى ألفاظ جوفاء لا تستند على أي مضمون وإنما استخدمت كسلاح للتشنيع بالآخرين والتشكيك بوطنيتهم، وتكريس المنطق الصدامي الذي يحرص على حصر الوطنية بهذه المجموعة أو تلك، وأما الآخرون فكلهم خونة لتراب الوطن وعملاء للأجنبي.. وممن جاءوا إلى العراق على ظهر الدبابة الملعونة..! وبالرغم من هذا وذاك.. فلا التفات إلا إلى لغة الواقع، وبحسب الأرقام كما هي على الأرض.. فان الغالبية وبحكم أكثريتها هي وليس سواها "بيضة الميزان" ولكن ما يعانيه هذا المكون هو عدم الإجماع على مظلوميته لتكون منطلقا قويا بما فيه الكفاية وبجهود متظافرة لبناء النظام السياسي العادل القائم على أنصاف الجميع.
وإذا كان من حسنات هذا المكون هو المرونة في التعامل مع جميع الأطراف.. ووجود مرجعية دينية مسددة بين ظهرانيه.. فلم يزل تتحكم في بعض حالاته الازدواجية ما بين ما يقطع به العقل من ضرورة التوحد والتلاقي ما بين كتله وقواه السياسية والدينية وتجاوز الصغائر بإزاء الهدف الأسمى، وبين ما توحي به النفوس من مقاييس الربح والخسارة، والتحسس السلبي من هذا الطرف أو ذاك، بما لا يتناسب مع ما تتطلبه مصالح الجميع العليا.. على أن اخطر ما تواجهه المرحلة القادمة هو تغلغل بقايا المرحلة السابقة البائدة المتهرئة في مراكز القرار في البلد.. مع أن أولئك لم يثبتوا أبدا براءتهم مما ارتكبوا بحق أبناء الشعب من فضائع سابقا ولاحقا.. ومع أنهم ما فتئوا يشعرون الآخرين بان لا فضل لرعاة العملية السياسية المتهمين من قبل أولئك في أصالتهم ووطنيتهم في عودتهم للمسك بمفاصل الحكم.. وإنما الذي أتى بهم هو صناديق الاقتراع، فبات وجودهم شرعيا، بحسب المقاييس الديمقراطية وفي ضوء الاستحقاق الانتخابي وإذا ما كان ممثلوا تلك التوجهات على محدودية دورهم قد عطلوا تنفيذ الكثير من القرارات وقبعوا خلف الكثير من الأزمات في المرحلة السابقة.. فكيف تكون الحال مع عودتهم هذه المرة وبوجوه مكشوفة؟.
لا يعتقد أن هناك من سبيل سوى توحد أبناء الشعب المظلوم بكل اطيافه بشكل لا يسمح بنجاح لعبة تداخل الخنادق. ولكن ما يدعو إلى اشراقة أمل.. أن الشعب الذي نزل للساحة بكامل ثقله.. والذي استعد نفسيا للتعامل مع المحتملات.. لم يعد من اليسير وضعه ما بين فكي العصا والجزرة من جديد مرة أخرى..