مبررات الاستقالات السياسية ونتائجها
|
لطيف القصاب
أن يستقيل ذو منصب رفيع احتجاجا على خطأ أو اعترافا بخطأ هو أمر مستحسن في نطاق البيئات الإنسانية المؤمنة بقيم التحضر وعلى رأسها قيمة تحمل المسؤولية الأخلاقية سلبا أو إيجابا، بخلاف البيئات البدائية القائمة على مبادئ العنف والمغالبة التي لا يلقى فيها مثل هذا الإنسان أكثر من الصد والانتقاد، ويرمقه الكثيرون بنظرات تختلط فيها عناصر التوجس والريبة، وينعته آخرون بصفات المنتحرين أو المغامرين.
بعبارة اخرى فان الاستقالة في النظم الديمقراطية هي ظاهرة شائعة، وذات بعد إيجابي وهي في النظم الدكتاتورية نادرة الحدوث، وذات بعد سلبي في حال حدوثها، وغالبا ما يحل مفهوم الإقالة محل مفهوم الاستقالة في هذا النوع من النظم السياسية. اما في النظم المشوهة ديمقراطيا فهي أي (الاستقالة) لا تعدو عن كونها في اكثر الاحيان مناورة لا غير من لدن أصحابها.
في الحقيقة ان موقف المستقيل من منصب مهم يستحق التبجيل والاكبار لان مجرد اتخاذ قرار الاستقالة يحتاج عادة الى شجاعة نفسية لا تتوفر لدى الغالبية العظمى من البشر العاديين لاسيما اذا استتبع قرار الاستقالة خسارة شخصية جسيمة ينفرد بتحملها كاهل المستقيل وحده.وتتجلى اهمية الاستقالة وتزداد تألقا وسطوعا حينما تكون سببا مباشرا في احراز مصلحة عامة او درء خسارة عامة. وتصل الاستقالة الى اقصى حدود تأثيرها عمليا حينما يكون مجرد التلويح بها سببا لحدوث المنفعة او دفع المفسدة.هذه الامور يمكن التأكد منها ميدانيا في نطاق الدول التي تحيط المنصب العام فيها هالة معنوية اكثر منها مادية، ويُختار فيها ذوو المناصب استنادا الى وجود استحقاقات فعلية كالكفاءة العلمية والخبرة العملية النادرتين والنزاهة والاخلاص، وليس بدافع التوزيع العشوائي للمناصب كما هو الحال في البلدان التي تطبق على نحو سيء جدا نهج الديمقراطية التوافقية.
ولذلك فمن الطبيعي في الدول الاكثر رسوخا في الديمقراطية ان يظل مقعد المستقيل شاغرا الى حين ايجاد البديل، ومن الطبيعي ايضا ان يأخذ هذا الامر من الراي العام اهتماما مكثفا، فحتى بعد ان يُسد الشاغر الوظيفي بشخص اخر كفء تظل المقارنة بين الموظف الجديد وسلفه المستقيل قضية قائمة لأجل طويل وتثير شهية الناس العاديين في اصدار احكام التفاضل فيما بين أدائي الشخص المستقيل وخليفته. وبشكل عام فان ثقافة الاستقالة الطوعية عن المنصب السياسي النافذ هي من جملة الركائز التي تشد من أزر أنظمة الحكم الرشيد في دول العالم الاول خاصة الدول التي تطبق أطروحة الديمقراطية بشكل قريب من الانموذج المثالي غير انها في الدول الدكتاتورية أو التي تسودها ديمقراطيات مشوهة لا تؤتي ثمارا نافعة، وغالبا ما ينتهي الحال بها الى مصير عدمي خال من اية جدوى تذكر.
في العراق شهد الواقع الحكومي على وجه الخصوص تعثرا كبيرا في مستويات السياسة والامن والخدمات، وفي مواضع تفوق القدرة على الاحصاء، غير ان هذا المشهد البائس تزامن مع تبجح مزعج من لدن الماسكين بهذه الملفات حول احراز منجزات ومكاسب عديدة، ناهيك عن عدم تقديم استقالات طوعية نوعية من لدن المعنيين باستثناء ما قامت به الكتلة الصدرية في الحكومة السابقة حينما قدم وزراؤها استقالة جماعية عن مناصبهم سرعان ما سُدّت شواغرها، وكأن شيئا لم يحدث، وفي الحكومة الجديدة تناولت وسائل الاعلام مؤخرا قضية استقالة النائب الاول لرئيس الجمهورية عادل عبد المهدي عن منصبه (الجديد القديم) من زوايا نظر مختلفة ولكن من دون ان يكون لهذا النبأ تأثير ايجابي ملموس على عامة المواطنين العراقيين ولعل جزءا كبيرا من السر في اللامبالاة الجماهيرية ازاء استقالات الساسة العراقيين يكمن فيما يأتي:
1- ان ما يجعل نبأ الاستقالة السياسية غير ذات تأثير على الواقع الجماهيري العراقي هو ما ترسخ في العقل الجمعي لعامة المواطنين من ان العملية السياسية في هذا البلد انما بُنيت على اساس المحاصصة، فلكل من (ممثلي) المكونات الاجتماعية حصته(المادية والاعتبارية) التي يجب ان يتمسك بها لا ان يفرط بها، ولذا فان قضية الاهتمام بموضوع الاستقالة من عدمه موكول الى المجتمع السياسي، وليس لعامة المجتمع الا التفرج السلبي !؟، اوليس هذا افضل للمواطن العادي من الدخول في معمعات ليس له فيها حصة تذكر؟!، اذ الحصة باسرها من نصيب المجتمع السياسي الممثل برموز معينة.
2- ان غياب الموظف الحكومي المستقيل عموما عن ساحة الحدث لن يترك فراغا واضحا او يسبب ارباكا معتدا به، على خلفية ان اختيار الشخص المستقيل لم يتم بناء على وجود شرطي الكفاءة العلمية والخبرة العملية بل جاء امتثالا ايضا لقاعدة المحاصصة السياسية ما يعني وجود وفرة في البدائل لا العكس. وهنا قد يقول البعض ان المحاصصة لا تعني نفي الكفاءة عن المنصب العام لإمكانية الجمع بين الكفاءة والمحاصصة في اطار المكون الاجتماعي الواحد، ان هذا سيبدو منطقا سليما نوعا ما، لولا ان المحاصصة كما هي على ارض الواقع في العراق محصورة في حيز بشري معين، وليس في الحدود القصوى لهذا المكون الاجتماعي او ذاك، الامر الذي يستبعد بطبيعته الكفاءات المهمة خارج ذلك الحيز المختار على وفق انتماء خاص وولاء اخص، الى جانب ان من المناصب الحكومية ما لا يسد الشاغر فيه الا شخص واحد او مجموعة اشخاص قد يستحيل وجودهم في مكون اجتماعي بعينه وبالتالي فان ايجاد (شدة) ورد عراقية تمتاز بالكفاءة العالية في كل دائرة رسمية يعد ضربا من ضروب المستحيل وربما الجنون ايضا.
3- ان ما يجعل هذا النوع من السلوك السياسي الديمقراطي أي ثقافة تقديم الاستقالة الطوعية مشككا في نواياه حتى الحسنة منه هو فقدان الثقة بمجتمع السياسيين بوجه يكاد يكون مطلقا بين عموم المواطنين العراقيين مع امكانية النظر الى فعل الاستقالة دائما من زاوية البحث عن (حصة) اكبر او التهرب من المسؤولية لا العكس.
4- ان هذه الاستقالات السياسية غالبا ما تسوق اعلاميا على انها انصياع لرغبة جهة ما اي: ليس لوجه الصالح العام وكفى، ومن المعلوم فان اية جهة اخرى سوى جهة (الصالح العام) لا يشترط فيها بحسب التنوع السكاني للبلد المبني على فلسفة (المحاصصة) ان تحظى بإجماع الغالبية العظمى من المواطنين وبالتالي فان اية استقالة سياسية لا تستند الى مرجعية (الصالح العام) لا يُتوقع لها الا ان تولد ميتة.
في الحقيقة ان ما يحتاجه العراق في هذه الفترة لا يستدعي تقديم استقالات سياسية شخصية بقدر ما يحتاج الى فرز دقيق للمواقع الوظيفية العامة المترهلة واخراجها من نطاق مؤسسات الدولة، والتركيز على تفعيل المواقع المهمة في البلد والحيلولة دون تداخل الصلاحيات والسلطات بالتزامن مع اشاعة التفكير الجماعي واستهداف الصالح العام في العمل المؤسساتي من اجل قطع الطريق امام محاولات بعض السياسيين لاستغلال ما بحوزتهم من (حصص) الصلاحيات والسلطات او التخلي عنها مؤقتا بنية جني (حصص) اكبر مما تركوه مستقبلا.اما اذا كان لابد من تقديم الاستقالة السياسية من هذا الطرف او ذاك فلتكن مذيلة برفض قاطع لمبدأ (المحاصصة) وتأييد مطلق لمبدأ الصالح العام، فعسى ان يبث هذا التوقيع شيئا من الروح في جثث الاستقالات.
|
|