قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

العراقيون.. والهروب من الحرية !
مهند حبيب السماوي
شكلّت لحظة انهيار نظام المقبور صدام حسين وتداعي سلطته الدكتاتورية في عام 2003 نقطة تحول كبرى وخطيرة في تاريخ العراق المعاصر، دشنت، بشكل جلي، ومن خلال تمظهراتها المختلفة، مرحلة فارقة جديدة في حياة العراقيين تفجّرت، على أثرها، المكبوتات السياسية والاجتماعية والسيكولوجية التي كانت تخنق الإنسان العراقي وتمتص وجوده الإنساني وتسحبه الى هاوية سلوك غير سوي مُحاط بقلق يتنامى كل لحظة من لحظات حياته.وكانت " الحرية ". . إحدى نتائج وثمار هذا السقوط المروع للنظام السابق، إذ انعتقت هذه الحرية من أغلالها التي كانت تُقيد كيانها المنسحق أصلا تحت أقدام الطغاة والممزق في أتون مهاوي سحيقة، لدرجة يمكن أن ينطبق عليه مقولة أتين دي لابويسيه حينما قال " إنه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب متى تم خضوعه، يسقط فجأة في هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ لاستردادها، ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى ليُهيَأُ لمن يراه أنه لم يخسر حريته بل كسب عبوديته".
ولكن هذه الحرية التي كانت مختبئة في مجهول الفرد العراقي ما لبثت، بعد سقوط النظام وانهياره، ان خرجت سافرة عن وجهها كاشفة عن جسدها سائرة، من غير هدى، إلى فضاء واسع وشامل، غير محمود ومكشوف العواقب، من الفوضى واللانظام والعبث.ولان هذه الحرية التي انعتقت وتم فك أسرها من سجن قيدها الخارجي لم تكن قد تولت مهمة تحرير ذاتها وكيانها بمفردها...لذلك لم تشعر مع هذا التحرر، بالتالي، بالمسؤولية والقدرة على تحمل النتائج المترتبة على الفعل الذي تقوم به، بل كانت تلك الحرية، نتيجة العامل الخارجي. . مساوية في، معناها ومضمونها ودلالاتها، للفوضى ومرادفة للعبث ومتساوقة مع اللامعقول، في الكثير من صورها. هذا أدى بدوره إن تكون الحرية، بالنسبة للشعب العراقي، مدخلاً للشر والفوضى وحالة انعدام الأمن التي رافقت سقوط صدام وانهيار دولته الكارتونية، خصوصا والعراقيون لازالوا لحد الآن يعيشون وضعا أمنيا مترديا كان يقف وراءه عوامل عدة أهمها بقايا النظام السابق والجماعات التكفيرية الذين تقف معهم دول إقليمية تخشى من نجاح التجربة العراقية بالإضافة الى الخلل البنيوي في المؤسسة الأمنية وانتشار الفساد فيها.
موقف الشعب العراقي من الحرية والنتائج التي ترتبت عليها يعيد للذاكرة تجربة العالم النفسي والاجتماعي اريك فروم في كتابه الشهير (الهروب من الحرية Escape from Freedom –، 1941) . اذ يمكن ان نقرأها وفقاً لمرآة ما مر به العراق بعد 2003 الذي عاش وجوديا مشكلة ثقل الحرية وتداعياتها الوخيمة على الشعب العراقي واستقراره واحساسه بالامان.وهنا لابأس ان نعيد ونستذكر السؤال المهم الذي طرحه فروم في كتابه السالف الذكر حينما تساءل " هل يمكن أن تصبح الحرية عبئاً ثقيلا على الإنسان لا يستطيع تحمله.. وأمرا يحاول الهروب منه؟". نعم نجيب بكل وضوح نيابة عن شريحة واسعة من الشعب العراقي، حيث أن المآسي التي مر بها الاخير وحجم الكوارث التي اصابته جعلته يشعر فعلا بثقل هذه الحرية وتبعات تشظيها في المجتمع على هذا النحو الفوضوي الذي مالبثت ان القت بضلالها على مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والخدماتية والامنية فيه بحيث احس المواطن، وعلى نحو مباشر وبقوة، بالجانب المظلم والسيئ فيها.فاذا كان الشعب العراقي قد تحرر من قيوده السابقة وأصبح الان حراً الا انه عاش ولحد الان حرية سلبية مكنته من التخلص من القيود والأطر الخارجية التي كانت تقف عائقا امامه، لكنه لم يصل الى الجزء الثاني والمكمل من الحرية وهي الحرية الايجابية التي من خلالها يظفر بتحقيق ذاته الفردية.ونتيجة انعدام التوازن بين هذين الجانبين، كما يحلل ذلك فرم في كتابه، لذا يشعر المرء بعدم الانتماء، وبالعزلة، والعجز، وعدم الأمن..
وبالنسبة للمجتمع العراقي فان أكثر ماشعر بها المواطن هو عدم الأمن، وبناءاً على هذا، يحاول المرء الهروب من هذه الحرية السلبية وهذا التحرر الوهمي الذي جعله غير آمنا على حياته ومصيره وقلقا وفي حالة لايمكن ان يطيقها ابداً. وأمام فرد يعيش في ظل هذا الموقف خياران من وجهة نظر فروم لا ثالث لهما : إما الهروب من هذه الحرية إلى التبعيّات الجديدة والخضوع والاستسلام والرجوع لعصر سابق، وإما التقدم إلى تحقيق الحرية بالمعنى الإيجابي التي تقوم على فرادة الإنسان. .. والشعب العراقي الذي يعد مصداقا لهكذا فرد لايمكن له ان يعود الى الخلف ولاينبغي ان يكون كذلك لكنه مطالب بالخيار الثاني. اقول ان على الشعب العراقي ان يعي مسؤوليته ودوره الحالي في صناعة مستقبله وقراره واستقرار بلده فلايكفي ان نعاتب القوات الامريكية، او ان نلوم الحكومة العراقية على نقص الخدمات والامن الهش لديها، بل على هذا الشعب ان يواجه نفسه ويتحمل مسؤوليته الجسيمة التي تقع على عاتقه وهو خارج من ركام مرحلة وداخل في مرحلة جديدة مختلفة تماما عما قبلها وفيها تحديات كبيرة ومشكلات جمة وليس من الممكن ازائها ان لايتحمل الشعب اي مسؤولية عن حلها ويلقي بالسبب وراء ذلك الى الحكومة التي ينسى انه اختارها وسلمها بيده مفتاح المسؤولية.