كربلاء و الروح الرسالية المستدامة
|
*كريم الموسوي
إن المدخل الطبيعي الممهد لفهم مسيرة أهل البيت (ع) هو وعي الحكمة الإلهية "في الجملة" المتمثلة في غاية الخلق وسنن الله في خلقه، ووعي وظيفة الإمامة. ولا ريب أن هذين يتجليان في حركة الأنبياء التي وثقتها النصوص. ومن هنا تكون بعض العبر المستخلصة من مسيرة الأنبياء (ع) هي مفاتح الفهم لمسيرة أهل البيت (ع).
ادوار ومهام
الدعوة للتوحيد ومن ثم العدالة ضمن معادلة العبودية والرحمة. وهذا الدور يستمر مع النبي حتى بعد حدوث التحول وقبول المجتمع بالدعوة الجديدة. وذلك بتعميق التدين وتحصين الإيمان والاستقامة ومحورية هذا المسار بحيث يشكل العماد والوظيفة الملازمة مع النبي في كل الاحوال أي حتى مع تعذر المسارب الاخرى.
والحكم كنتيجة طبيعية للتحول الاجتماعي نحو الدعوة الجديدة. يُعد وسيلة لتحقيق اهداف الدعوة الرسالية (الحق العدل). ولنا ان نتصور ضآلة الفرص المتاحة للحكم، حيث لا يكون الحكم يسبح في انهار الدماء ولا يكون وسائله حجاجية. لذا المشاهد التاريخية للحكم الرسالي معدودة كذي القرنين وطالوت ونبي الله داوود وسليمان (ع) وهي اقل في الامة الاسلامية. نعم قد يتطلب الحكم الرسالي الجهاد، لكن لرفع استبداد الطغاة المصادرين لخيار الامة التي تنشد الاسلام دينا وحكما لا بفرضه عليها .
وعلى هذا فان الحركة الرسالية وهي تتحرك نحو التوحيد والعدل، حين يتعذر او يضيق بها الافق السياسي لا تتوقف المسيرة في البعدين الاولين (الدعوة والتعليم) الى حين تتحول الظروف ولو بصناعتها بالهجرة مثلا .
التجمع الايماني
ان بداهة الدعوة في كسب افراد جدد من الوضوح بمكان. الا ان تتبع حركة الانبياء وتكوينهم للمجتمع المؤمن الصغير حتى قبل حدوث التحول الكامل في المجتمع وجعله يتمايز عن محيطه بالبراءة ومنظومة من السلوكيات والمعارف والمرجعيات. وهذا التجمع يشكل نقطة انطلاق للدعوة قبل تحقق المجتمع الايماني والدولة. ويشكل نقطة ارتكاز لمقاومة الانحراف في المجتمع الايماني ولو بتعاقب الاجيال "فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلوات...". ومن ثم يلقي على عاتق التجمع استمرار مسير التوحيد والاصلاح. وبعبارة كان الانبياء يجتهدون في تحويل المسيرة الالهية كمسيرة اجتماعية ، ولو في ثلة مؤمنة تتوارث رسالة التوحيد. ومتى وجدت مندوحة من الزمان سعت لتحقيق الاهداف الرسالية .
ويلقى على عاتق هذه الثلة ـ الامة مسؤولية استمرارية المسيرة الرسالية وحمل لواء التوحيد والاصلاح وتحقيق دور الشهادة والأنموذح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبمقدار اهمية تحمل (الثلة) اعباء المسيرة الرسالية، ينبغي المحافظة على تواصل المسيرة عبر الاجيال. مما يتطلب المنع من فنائها وضخ دماء جديدة باستمرار، حيث العضوية في هذه الامة بالايمان بالقيم الرسالية فالموازنة بين توسعها واصطلامها اعباء الجهاد ومقاومة التحريف وبين مواصلة المسيرة مطلوبة ومعقدة، لتشابك ( الانسان يحمل الرسالة والرسالة من اجل الانسان) وربما في هذا السياق نفهم بعض ما قاله السبط المجتبى (ع) لبعض اصحابه كاحد مبررات الصلح (ابقي عليكم) وتخيير الامام الكاظم (ع) بين الخسارة الكبيرة في خيار الشيعة وبين شخصه المقدس فاختار الحفاظ على الشيعة. بل ونفهم عدم انتظار السبط الشهيد (ع) مجاميع الشيعة الخارجة لنصرته من البصرة – مثلا- أي بين الموازنة في احداث الصدمة لمواجهة الانحسار في الروح الاسلامية، والتحريف وتدشين شرعية الثورة وبين عدم تعريض الكيان الرسالي لحرب استئصالية. فكان ان ضحى بنفسه الشريفة واهل بيته واصحابه محققاً الولادة الثانية للروح الرسالية ومبقيا على عموم الشيعة لينطلقوا من جديد في مسار اعمق واوسع ببركة الثورة الحسينية.
التخطيط الالهي
ثمة نظريتان في فهم حركة ائمة الهدى (ع) فهم ضمن اطار شمولي منبثق عن الحكمة الإلهية. والثانية قد لا تنطلق من رؤية (فلسفية) يمنع من التخطيط لكنها تفكك حركة الائمة (ع) الى مسارات جزئية حيث تكتفي هذه النظرة بالاستفادة الشرعية التقليدية المفصولة عن حركة الاصلاح. وحيث ان هذه العجالة لا تسمح ببسط الكلام نكتفي باسقاط الرؤية لمسار حركة الانبياء المؤسسة على التخطيط الالهي من حيث الدور والتوقيت وما اشبه على دور الائمة. نعم قد لا نصل لاسرار الحكمة الالهية لكن السعي لوعيها من خلال النصوص القرانية والروائية الراصدة لحركة الانبياء (ع) والائمة (ع) يبقى مشروعا بل مطلوبا لوعي السنن الالهية والاستنارة بالبصائر الالهية في العمل الاصلاحي.
ان الرؤية المقررةهي ان رسالات الأنبياء كانت بمنزلة التمهيد للرسالة الخاتمة مسايرة وتربية للعقل البشري. فكذلك ترى ان الأئمة (ع) كانوا يمهدون للدولة الوارثة للارض حيث تكون (العاقبة للمتقي) ونهاية التاريخ. وحيث ان الحكمة الالهية اقتضت حدوث (الغيبة) حيث تكون شبيهة ب"فترة من الرسل"، كان سعي الأئمة (ع) لتأسيس التجمع المؤمن القادر على حمل الرسالة فيما يستقبله من ايام عصيبة .
وبالرغم من كفاية التأسيس لرؤية التخطيط الإلهي انطلاقا من الحكمة الإلهية وما يتفرع عنها. الا ان ثمة وفرة في النصوص والشواهد تدلل على هذه الرؤية الرسالية، ويعيب تلك النظرة التقليدية قصورها عن تفسير تباين سلوكيات ومسارات الأئمة (ع). وغير خفي أن من المعيب ارجاع ذلك لعوامل ذاتية في أشخاص الائمة (ع) توقع بصاحبها في المحذور ، ناهيك عن تفريغ هذا التاريخ المعصوم من المضمون الرسالي أي أهداف الرسالة.
كربلاء والروح الجديدة
مع ميلاد المجتمع المؤمن، يحمل بذور الانحراف (لثنائية الإنسان) ودخول المنافقين أو طمع بعض المؤمنين بعد جهاد طويل باستحقاقات ومكاسب. ومع حدوث تحولات كبيرة تسمح الفرص لقوى التحريف بالتمكن داخل المجتمع المؤمن. حيث يتبدل إلى الطرف المقابل في الصراع من (الكفر إلى النفاق) وحيث الانتصار رهن السعي والظروف الموضوعية للنجاح والاخفاق فالنتائج مفتوحة.
نعم يكون بدءاً مقاومة التحريف وحين يستشري ويستولي على أزمة الامور يتحول المؤمنون إلى معارضة اصلاحية تقاوم التحريف في مستوياتها المختلفة. وقد ترصد ثلة مؤمنة ارتبطت بالاسلام وبأهدافه الرسالة بوعي عميق في أيام الرسول (ص) حيث التفت حول الأمير (ع) لما يمثله من الامتداد الرسالي للنبوة وفي الحقبة الراشدية تتبلور بعض المعالم السياسية والفكرية لكن على نطاق ضيق. نعم في المستوى السياسي كانت واسعاً حيث أصبح الأمير (ع) رمزا للعدالة ونصرة المستضعفين.
إن أهمية كربلاء تبرز بوضوح من اهتمام النصوص بها ومحوريتها في تاريخ الانبياء - زيارة الأنبياء لكربلاء وحزنهم- وقد لا ندرك أسراره إلا أننا ندرك أن كربلاء تشكل منعطف في تاريخ الحركة الرسالية منذ بدء الخليقة.
فالملاحظ أن وعي الروح الايمانية القادرة على خوص معركتين شرستين متداخلتين ومتقابلتين؛ حرب مع الكفر وأخرى مع النفاق، لن تكون محصورة على القلة من المؤمنين. ويزيد الأمر صعوبة هو الوعي القادر على تشخيص الانحراف في بداياته. والقادر على وعيه دون أن يصاب بالاحباط والتشاؤم.
|
|