والشعراء يزفون عرائسهم ساعة الوجع
|
د. نضير الخزرجي
الأدب العربي بشقّيه المنثور والمنظوم صورة بينة عن التمدد الوجداني الذي تسوقه ثقافة كل مجتمع وإن كانت اللغة العربية هي السمة العامة له، لذا يكون وجدانا منظبطاً في أحيان وغير منضبظ في أحيان أخرى فيعد تارة من التنوع المحبوب في نواله وأخرى من التنوع المنفلت من عقاله لكن المشاعر الوجدانية المتنوعة بتنوع ثقافات المجتمعات تأخذ إطاراً علمياً في بعض الأوقات إذا صُبّت في قوالب محددة المعالم كما هي الحال في بحور الشعر فهي أشبه بمعادلات رياضية ولكنها بمقاسات أدبية شعرية، غير أن ما يجملها أنها تستقبل كل الأغراض وتستوعب كل المشاعر الصادقة منها والمزيفة ولذلك كان الشعر الموزون هو العلامة الفارقة على حسن تعامل أدباء هذا المجتمع أوذاك مع معطيات ا لمعارف الانسانية وتوظيف الوجدانيات في صقل ثقافة المجتمع.
ولأن الشاعر يمثل ضمير الأمة ويعكس مساراتها في آمالها وآلامها فإن الشعر كاشف عن مضامين اجتماعية كثيرة قد لا تبدو واضحة لدارسي علم الاجتماع ولا لعلماء الانسانيات، خاصة في الفترات الأخيرة التي تم تأطير كل مفردة من مفردات الحياة الانسانية في مناهج علمية من هنا كانت دواوين الشعر الصادرة عن دائرة المعارف الحسينية والتي تم توظيبها ضمن القرون الهجرية فرصة طيبة لقراءة واقع المجتمعات العربية والاسلامية في كل قرن والوقوف على حال كل مجتمع ووجدانياته من خلال تحليل قصائد الشعراء وأغراضها وما تحويه من مفايهم وقيم وفي هذا الاطار صدر حيثاً عن المركز الحسيني للدراسات بلندن الجزء الثاني من ديوان القرن الحادي عشر الهجري الذي يستوعب الفترة الميلادية 8/10/1592 – 14/10/1689 م في (518) صفحة من القطع والزيري حيث يدأب المحقق والأديب الدكتور محمد صادق الكرباسي على اقتناص القصائد المضمخة بعبير الشهادة في كربلاء من بين الكتب المطبوعة والمخطوطة في جهد غير طبيعي لإحياء التراث العربي والاسلامي.
لقد جرت العادة أن يقوم الآخر بنقد وتقويم وتقييم ما ينتجه الكاتب أو الناظم حيث يستطيع بما يمتلك من الحبكة الكتابية على شق أمواج البحور ليبتعد عن تقويم نتاجاته الأدبية ويدع ذلك للنقاد إلا في حالات استثنائية تدعوها الضرورة لأن مثل هذه العملية هي وظيفة الناقد الأدبي الذي يؤشر بذوقه المعرفي على مواضيع القوة والضعف في جوانب البيت الشعري وتعظم مثل هذه المسؤولية في النص الشعري ذي القوالب الموزونة من البحور الخليلية والبحور الأخرى لمكتشفين جدد ومولدين آخرين ماضين ومعاصرين ومن ينقد النص الشعري إنما هو تلميذ من تلامذة الخليل بن أحمد الفراهيدي في علم العروض والذي أخذ هو الآخر عن فطاحل الكلام وكما يقول بهاء الدين محمد بن محمد باقر الحسيني في ص7 من كتابه (تحف العروض في لطف العروض) المنوخ عام 1118 هـ / 1706م إن الخليل بن أحمد أخذ علم العروض عن أصحاب الإمام علي بن الحسين (ع) ومن أخذ عن الفراهيدي إنما أخذ من ينابيع المعرفة وعيون الأدب بشهادة أمير البيان الإمام علي بن أبي طالب (ع) (إنّا لأمراء الكلام وفينا تنشبت عروقه وعلينا تهدلت غصونه).
ولأن البحور ليست طيعة الأمواج فلا يعوم فيها إلا القليل فقد أبحرنا مع هؤلاء القلة الى ساحل القرن الحادي عشر على أمواج التفاعيل الخليلية ويلاحظ في شعراء القرن الحادي عشر الهجري أن البعض وصلت به الوثاقة في نظمه الى أن يصف قصيدته كما تصف الخطابة عروساً لعريس وتزينها في عينه حتى تأسر قلبه وعواطفه وبعض شبهها بالعروس تزف الى عريسها كما هي قصيدة (لا تأمن الدهر) للشاعر البحريني أحمد بن عبد الرؤوف الجد حفصي وهكذا فعل زميله ابن أبي شافين داوود بن محمد الجدحفصي المتوفي سنة 1017 هـ /1608 م بقصيدته المعنونة (الرسوم الخاليات) وبعض وصفها (بالدالثمين) كما هي قصيدة (غرام بقلبي يتوقد) للشاعر العراقي محمد بن نضيع الحلي وبعض جعلها حسناء كاللؤلؤ النضيد كما هي قصيدة (جودي بالدمع) للشاعر العراقي نعمان الحسيني الأعرجي وبعض جعلها كالجوهر كما هي قصيدة (ابكى الحسيني) للشاعر العراقي الاحسائي الأصل علي بن الحسين السبعي ومثله وصفها الشاعر البحريني أحمد بن صالح حاجي البلادي المتوفي عام 1010 هـ / 1601 م في قصيدته المعنونة (دنياك فانية) وبعض شبهها بالبديعة الجميلة كما هي قصيدة الشاعر العراقي محمد بن سمين الحلي المعنونة (أرض كربلاء).
من هنا يقدم النعمان الأعرجي قصديته المعنونة (سال دمعي من جفوني) من بحر الخفيف:
آل طه ودادكم هو فرضي ويقين واعتمادي وديني
ويقيني بأنه من لظى النار إذا شب في الضرام يقيني
بكر نظم حسناء حسان لو كان شاهد التحسين
من غلاكم لها قلائد حسن من عقيق ولؤلؤ مكنون
فالشاعر الأعرجي جمع في هذه القصيدة بين العروس والأحجار الكريمة كما تزين الأحجار العروس في ليلة زفافها.
والشاعر المغربي محمد بن محمد المرابط الدلائي المتوفى عام 1089 هـ/ 1678 م يقول من بحر الرمل:
أيخاف النار من يهواهما وهما سبط النبي المؤتَمَنْ؟
حاشَ للمولى يهين المنضوي لهما يوماً وأن فاض دَرَنْ
ويقول الشاعر علي بن الحسين السبعي يصف فيه بطولة أنصار الإمام الحسين (ع) فينشد من بحر الطويل الثالث قصيدته المعنونة (وافي نينوى مترقباً):
بعيد الليالي بالوعيد قريبُ وشأن الفتى في الإعتزال عجيبُ
ثم يصف حركة الحبيب الى الحبيب لنيل كأس الحياة:
يسيرون في ظل السيوف الى الوغى كما نحو الحبيب حبيبُ
ويقول الشاعر أحمد البلادي في قصيدته المعنونة (هذا العُذيب) من بحر الكامل ومطلعها:
هذا العُذيبُ وتلك تلك خيامها فسقاكِ يا سكنى العُذيبِ غمامُها
وحين يصل الى الرجال ينشد:
صبروا على حر السيوف وكم قضتْ صبراً على نُوَبِ الزمان كِرامُها
ويستعبر عند بيان حال نساء أهل البيت (ع) بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) فينشد:
فأتت إليه بناتُ أحمدَ حُسَّراً والنِّوحُ غايةُ قصدها ومرامُها
يجرُرنَ أذيالاً عثرنَ بفضلها ويحقُّ لطمُ خدودِها ولطامُها
شربت بكأسِ مصيبةٍ شَرِقتْ بها فهي النشاوى والدموع مُدامُها
فالرجال يشربون من كأس الشهادة وكؤوسهم من قطراتها خالية والنساء يشربن من كأس الأسر حيارى وليس لقوس الصبر من منزع
*اعلامي وباحث عراقي/ لندن
|
|