قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

واقعنا الديني وصناعة القرار
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة الشيخ عباس أحمد آل سعيد *
إن كل من ينظر إلى ما يعرف بالأمم المتقدمة يرى أن واقعهم قائمٌ على المؤسسات وعلى الجماعية في صناعة القرار، بينما واقع الأمة الإسلامية - في الأغلب- قائمٌ على قرارات فردية.
ولا ريب أن التقدم والتكامل في أي مجالٍ من المجالات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية لا يصنعه فرد أو أفراد قلائل، وإنما تصنعه العقول المشتركة لذوي الاختصاص في هذا المجال أو ذاك. وفي الحقيقة، إن الأمم التي تقدمت علمياً وعملياً لم تتقدم بالقرارات الفردية والعمل الفردي، وإنما لكفاءتها في صناعة القرار الجماعي. حيث أن التقدم العلمي الذي تميزت به الأمم المتقدمة لم يكن صناعة فردٍ واحد، وإنما نتاج تراكم خبرات وتجارب، كما هو صناعة مؤسسات تمتلك القدرة على العمل المشترك، وهكذا فيما يرتبط بمواجهة التحديات والقضايا العامة، تجد أن هنالك أطر جماعية منها تنبع القرارات.
وأمتنا حينما تخلفت علمياً وعملياً، فانها لم تتخلف لأنها تفتقر إلى عوامل النهوض، وإنما تخلفت لأنها عجزت عن صناعة القرار الجماعي. وحينما نقول القرار الجماعي، فإننا لا نريد القرار الذي ينبثق من الأغلبية، وإنما مرادنا القرار الذي ينبثق من الشورى كآلية للتداول وانتخاب الأحسن.
وكل من ينظر إلى واقعنا الديني والاجتماعي يدرك حاجته إلى التجديد والتطوير، وبالخصوص فيما يرتبط بصناعة القرار. حيث أن واقعنا لا يزال يفتقر إلى القدرة على صناعة القرار الجماعي بالشكل المطلوب، فتجد أن كثير من الكيانات والأعمال تغلب عليها الرؤية الفردية والعمل الفردي، والذي هو بطبيعة الحال عاجز عن أن يصنع كل شيء.
*بصائر الوحي في الشورى
حينما نراجع آيات الشورى في القرآن الكريم نجد أنه يؤكد على صناعة القرار الجماعي من خلال تأكيده على مفردة الشورى. بل إنه يكفي أن سورة من سور القرآن الكريم جعلت باسم (الشورى) تأكيداً على هذه المفردة الهامة في قيادة شؤون الأمة والمجتمع الإيماني. وها هنا عدة بصائر نستوحيها من آيات الشورى:
البصيرة الأولى: الشورى وقيادة الأمة المؤمنة..
إن القرآن لم يكتفِ بجعل الشورى في العلاقة الأخوية بين المؤمنين، وإنما جعلها قاعدة عليها تقوم الإمامة للأمة الإسلامية، فضلاً عن ما هو أدنى من المستويات. ولهذا نجد أن الله سبحانه أمر نبيه بالشورى لكونها تزيد من تلاحم المجتمع حول قيادته الرسالية. قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"، هذه الآية لها سياقٌ واحد، وهي تبيّن الصفات التي ينبغي على القيادة أن تتحلّى بها من أجل احتواء الأتباع، بصرف النظر عن موقع هذه القيادة، سواءً كانت هذه القيادة اجتماعية، أم كانت قيادة على شأنٍ من الشؤون الدينية، أم كانت مرجعية دينية وقيادة عليا بالنسبة للأمة، فهي تؤكد على عدة صفات:
1- "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ" حيث كانت شخصية الرسول لينة مع أصحابه وأتباعه، وهكذا ينبغي على كل من يتصدى إلى قيادة شأنٍ من الشؤون الدينية أو الاجتماعية أن يتحلى باللين وسعة الصدر. أما إذا كان القائد غليظاً في تعامله مستبداً في آرائه، فإن هذا سينعكس سلبياً على من هم حوله: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ".
2- "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ"، ومن الطبيعي أن من يتصدى للقيادة قد يتعرض إلى الإساءة ممن هم حوله، ولهذا هو بحاجة إلى أن يتصف بالعفو والتجاوز متى ما صدر منهم الزلل: ثم تبين ضرورة إشراك الأفراد في صناعة القرار.
3- "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"، حيث أن الشورى وإشراك الأفراد في صناعة القرار يساعد بشكل كبير على تنفيذه، بل إن الشورى لها آثارها التربوية، حيث أنها تجعل من الأفراد يتحسسون مسؤولياتهم، ويفكرون في شؤونهم بجدية.
4- "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"، حيث أن القيادة الرسالية تبقى فوق كل الآراء التي تطرح من أهل الشورى، فليست وظيفة القائد أن ينسق بين الآراء، وإنما من حقه أن يتخذ القرار الحازم بناءً على بصيرته ورؤيته للأمور.
من هنا ليس من الصحيح أن تغفل القيادة الدينية عن تطبيق مبدأ الشورى مع الأفراد في كل دائرة من دوائر العمل الديني، إذ ينبغي أن يكون هناك إطارٌ للشورى حتى بين العلماء والفقهاء، حيث أنه فيما يرتبط بالقضايا العامة والتحديات المصيرية التي تواجه الأمة المؤمنة لا بد من شورى الفقهاء، حيث ينبغي أن يشكل إطارٌ موحد للتخطيط والتفكير الجمعي من أجل مواجهة تحديات الأمة.
البصيرة الثانية: صفات أهل الشورى..
قال تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ".
إن المجتمع الإيماني حتى يتمكن من تطبيق الشورى لا بد أن يتصف أفراده بمواصفات تؤهلهم للاشتراك في صناعة القرارات العامة المرتبطة بواقع العمل الديني أو الاجتماعي. حيث أن أهل الشورى هم أولئك الذي استجابوا لقيم الرسالة، ولهذا كان تحركهم من أجل خدمة الدين والمجتمع، فأفراد الشورى كلهم على خط واحد ومسيرة واحدة، وهي الاستجابة لله سبحانه ولقيم الرسالة. وهم الذين حققوا في داخلهم روح العبودية الخالصة لله سبحانه. فإذا كانت الصلاة خالصة لله سبحانه، فإنها تشكل الضمانة في تفكير الإنسان وتوجهه في الحياة. بل إنه ليس الجميع يمتلك الاستعداد النفسي للتشاور مع الآخرين، وإقامة الصلاة بحقيقتها هي التي تقتلع المرض الداخلي حتى يصبح الإنسان مهيأ للتشاور مع المؤمنين.
البصيرة الثالثة: الشورى وإتباع الأحسن..
قال تعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ"، حيث أن أولي الألباب وأصحاب العقول لا يكتفون بإتباع الحسن في حياتهم، وإنما هم دائماً يتطلعون إلى إتباع الأحسن. وفيما يرتبط بقيادة الواقع الديني على جميع مستوياته هنالك حسن، وهنالك أحسن، وحتى تصل القيادة الرسالية إلى الأحسن لا بد لها الشورى. قال تعالى: "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا". وحيث أن رسالات الله جاءت متكاملة لتبين كل ما تحتاج إليه البشرية، ولهذا لا بد للقيادة الرسالية أن تتمسك بالرسالة بكل قوة.
وقد يتصور البعض بأن اختيار الأحسن والذي ينفع الناس، هو مجرد حق إن شاء أخذ به وإن شاء تركه، ولكن في الحقيقة اختيار الأحسن الذي يتضمن النفع للمؤمنين وللعمل الديني هو مسؤولية وأمر مطلوب على من يتصدى لقيادة المجتمع، لأنه كلما كان القرار أحسن وأصوب كلما كان النفع أتم وأشمل.
*محاسن الشورى ومساوئ الفردية
إن صناعة القرار تارةً يكون من خلال الشورى ومن خلال آلية جماعية، وتارة يكون من خلال رؤية فردية هي التي تصنع القرار بعيداً عن الأطراف الأخرى. والشورى لها محاسنها، كما أن الفردية لها مساوئها، وفي الحقيقة، المجتمع المتعقّل الذي يتطلع إلى النهوض هو الذي ينتخب النظام الأحسن والأكمل والذي به صلاح واقعه. وهنا من الضروري أن نقف على بعض محاسن الشورى والقرار الجماعي، وعلى بعض مساوئ الفردية في اتخاذ القرار:
أولاً: يتيح العمل القائم على الشورى الفرصة لتكامل الأدوار، بخلاف العمل الذي يتمحور حول فرد واحد أو أفراد قلائل، فمن الطبيعي أنه لا يتمكن من التكامل والتطوير المستمر. وحينما نأتي إلى أي إطار عمل في واقعنا الديني والاجتماعي، سواءً كان هذا العمل برنامج في مسجد أم مؤسسة اجتماعية أو مركز ديني، نرى أن الأعمال القائمة على الشورى هي التي تتكامل وتتقدم، بينما الأعمال التي تختزل في فرد أو أفراد قلائل من الصعب عليها أن تتطور وتتكامل.
ثانياً: يزرع العمل القائم على الشورى في أفراده روح العمل الجماعي، بينما اذا تتحكم الرؤية الفردية على الواقع، تغيب الروح الجماعية عن واقع العمل، حتى يصاب العمل بالشيخوخة ثم يموت. ولهذا أي كيان تقوم سياسته على فردٍ واحد، فانه يتعذر أن يستمر، بل وإن استمر هذا الكيان طيلة حياة قائده، فإن تلك السياسة حتماً ستتغير بعد وفاته.
وهذا ما يصدقه الواقع، حيث أنك تجد أن الكيانات السياسية التي تقوم على رؤية فردية لا يكتب لها عمرٌ طويل، وبمجرد رحيل أصحابها ومؤسسيها تجد أن تلك السياسة يعرض عليها التغيير والتبدل، بخلاف الكينات والجماعات القائمة على مبدأ الشورى والقرار الجماعي فهي أكثر استقراراً بطبيعة الحال.
وهذا الأمر كما يصدق في الواقع السياسي، هو يصدق أيضاً على غيره، أي عمل يقوم على الفردية والاستبداد هو يعمل عوامل فنائه في داخله، سواءً كان هذا العمل دينياً أم اجتماعياً أو سياسياً، وهذه سنة طبيعية، فالحياة لا يمكن أن تختزل في شخصٍ واحد، أو أشخاص قلائل.
*كاتب من السعودية