الإسلام والأطروحة الحضارية..
استيعاب الوجود وإحاطة المتغيرات
|
*عبد الجبار اسماعيل
بدءاً من نزوله على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) دأب الخطاب القرآني المتجدد وهو يمنح الوعي الإنساني المزيد من الحلول والأفكار والبدائل الجديدة ولاشك أن مثل هذه القدرة الدائمة على احتواء المتغيرات والمستجدات كفيلة بالاقتران مع الخلود والفاعلية المستمرة وهذا ما يمكن للإنسان أن يجده اليوم في القرآن الكريم في القرن الواحد والعشرين أكثر مما كان يجده في القرن السابع وهو التاريخ الذي يؤشر بداية النزول والإنطلاقة الأولى.
وقد أكد القرآن الكريم تجسيد هيمنة العلم الإلهي على المسيرة الفكرية والحضارية وذلك من خلال التحولات الحضارية والعلمية التي عبرت في مضامينها عن صدقية الأفكار والمفاهيم القرآنية وهكذا فقد استمر هذا التجدد في تقديم مستلزمات النهوض والتطور، بدءاً من الإنطلاقة الأولى عندما أنزل سبحانه وتعالى رسالته على صدر نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقد نزلت هذه الرسالة وهي تشتمل على الرؤية الحضارية الشاملة والعميقة والقادرة على استيعاب مفردات التطور كافة وفقا للمديات الأقصى لقدرة الإنسان في بلوغ الأهداف والغايات الحضارية الممكنة.
وفي البداية جاءت المرحلة الإسلامية وهي تبشر بفصل جديد من المسيرة الإنسانية القائمة على منطلقات التطور المختزنة في الفكر القرآني في إطار التحولات الزمنية التي تشتمل على الظرف الزماني القائم في القرن السابع الميلادي مرورا بما شاء الله سبحانه وتعالى أن يبدع بتدبيره ومشيئته ما يشاء من القرون القادمة فقد كانت الأرض في ذلك القرن (السابع الميلادي) تشهد فترة ركود علمي على الأصعدة المتعددة وقد انعكس ذلك بوضوح على طبيعة العلاقات الإنسانية القائمة وخضوع هذه العلائق إلى واقع الفوضى التي كانت تفرض استحقاقات قاسية على الإنسان في جميع بقاع المعمورة.
وبعد الحقبة العلمية والثقافية الهيلينية (علوم أثينا) فضلاً عن الإرهاصات العلمية والمتجلية في نفس الحقبة (بعلوم الاسكندرية) في مصر و(علوم الرومان) بدأت هذه المظاهر المشجعة بالتراجع والإنحسار لتلقي حالة التخلف والجهل المطبق ضلالها السوداء على البقاع والأنحاء كافة دون تمييز بين جهة وأخرى.
ولم يكن الأمر في الجزيرة العربية يمثل في واقع الأمر حالة استثنائية أو واقعا غريبا يمكن تحليل أسبابه وأوضاعه بمعزل عن الأسباب والأوضاع الكامنة وراء حالة التخلف الإنساني العام السائد في ذلك العصر على الأرض.
ففي تلك البقعة التي شهدت نزول الرسالة الإسلامية السمحاء و شهدت انطلاقتها إلى بقية أنحاء المعمورة، كانت تعيش عصرا جاهليا بما لهذه الكلمة من أبعاد ودلالات فقد عمت حالة الفوضى والعبثية الأمر الذي أدى إلى غياب (العلم المنهجي والمنظم) وبدلا من ذلك كانت هناك اقتباسات انتقائية ومعارف متفرقة وأفكار تنسجم مع متطلبات الإنسان البسيطة والسطحية وبناء على ذلك فقد جاءت الإهتمامات العلمية والمحددة لا تتجاوز حاجة الإنسان البسيط من سكان الجزيرة العربية إلى الإطلاع على أوقات النجوم، ما يتعلق بمطالعها ومغاربها وكذلك ما يتعلق بأنواع الكواكب وأمطارها ويلاحظ أن تلك المعارف على بساطتها لم تكن متأتية عن طريق توظيف الإمكانات والقدرات العلمية وإنما جاءت عن طريق الضرورات والتحديات السائدة في ذلك الحين سواء أكان من خلال البيئة أم من خلال الظروف المعيشية والإقتصادية التي ترتبط ارتباطا واضحا كما هو معروف بعلم الكواكب والنجوم لما لذلك العلم من علاقة في تحديد الإتجاهات ومعرفة مواعيد الأمطار ومواسم الخصب.
وفي ضوء ذلك يمكن القول أن حالة التخلف والتراجع لم تكن خاضعة لمعايير جغرافية أو إنسانية وإنما كانت قائمة على العمومية والشمولية وهو ما أدى إلى جعل العالم في ذلك العصر يعيش ظلاما دامسا جراء الجهل والتخلف فقد كانت الأجواء السابقة لظهور القرآن الكريم تفتقر إلى الأسس العلمية التي يعتد بها والتي يمكن ان توفر الأرضية المناسبة لبروز مناهج علمية صحيحة وليس كما كان سائدا من بوادر لا يمكن ان تطلق عليها تسمية ظواهر علمية حقيقية.
ومن هنا فقد نزل القرآن الكريم وفق المشيئة الإلهية في اختيار الزمان والمكان المناسبين حيث جاء مشتملا على ما تفتقر إليه هذه المفردتان من ضرورات واقعية على صعيد بناء العقل والروح فقد جاء الكتاب المجيد وهو يتضمن في سوره وآياته المباركة بشارة للإنسان تضع أمامه الأدوات الضرورية لتحقيق عملية البناء والتي يمكن ان تضمن له الفوز في حياته الدنيا وكذلك في حياته الآخرة.
وبناء على ذلك فقد جاءت المضامين القرآنية وهي تشتمل على ما هو مجمل وما هو مفصل فيما جاءت المضامين الأخرى تعبر عن نفسها من خلال الإطلالة المستقبلية والإشارة إلى العناوين والمسميات الحضارية والعلمية التي تمكن الإنسان عن طريق التجربة والتحول الحضاري ان يستوعبها ويقيم علاقات واقعية ومعرفية معها.
يقول تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء"، وعلى ذلك فقد نزل القرآن الكريم من منطلق بناء الأرض والإنسان وفي مسيرة تتسم بالجهاد والكدح ابتداء من القرن السابع الميلادي، فالقرآن هو الأساس لكل مقومات الحياة والحضارة الإنسانية وفي مقدمة تلك المقومات النزعة العلمية في التعامل الشمولي الابداعي على صعيد الحاضر والمستقبل والمديات الزمنية الأخرى غير المنظورة.
ولعل هذه الحقائق يمكن لمسها بوضوح من خلال إجراء مقارنة تاريخية بين واقع ما قبل الإسلام والواقع الذي جاء بعده ففي الواقع الأول كانت الخرافة والأساطير والأوهام والخوارق تعتمد كإستعاضات عن الحضور العقلي والإبداع الإنساني ولذا نجد ان الإنسان المسكون بالفزع والخوف والمحدق بالموت والفناء من جهاته الأربع كان مضطرا لمواجهة كل ذلك عن طريق الكواكب والنجوم والشجر والحجر وذلك عن طريق منحها صفة العاقل المدير وإسباغ وهم القوة والقدرة عليها من أجل إحاطة النفس القلقة والخائفة بمزيد من الأوهام وخداع الذات.
وفي وسط هذا الظلام الدامس جاء الخطاب القرآني وهو يؤشر المديات التي يجب ان ينطلق من خلالها الإنسان في وضعه البدائي المغرق بالتخلف والجاهلية وكذلك في تحولاته وتنقلاته الحضارية عبر القرون الآتية والتي تأتي إلى ما كان مقدرا من قبله سبحانه وتعالى للعقل الإنساني أن يصل إليه.
|
|