الإمام الصادق (عليه السلام) ملهم الثقافة الرسالية
|
*أسعد محمد علي
كلما تمر علينا ذكرى وفاة أو ميلاد أحد الأئمة الهداة (عليهم السلام)، نجد من الواجب علينا تجديد العهد مع ذلك الإمام، وأن نرتفع لنكون بمستوى إتّباعه، ونستلهم من ضياء سيرته وهدى أقواله وأفعاله وأحاديثه، وقد امتدت فترة الإمامة للأئمة الأثني عشر (عليهم السلام) على مدى مساحة زمنية واسعة نسيباً، وكانت المشيئة الالهية في إطالة هذه المدة لأجل أن يكون لكل حدث يقع في المستقبل ولكل تطور في الحياة، شريعة اسلامية ومنهج متين واضح المعالم مستوحى من سيرة أهل البيت (صلوا ت الله وسلامه عليهم أجمعين).
إن الرسالة الإسلامية التي حملها نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) هي آخر وأكمل رسالة يوجهها رب السماء إلى عباده من أهل الأرض. ولذا كان لزاماً أن تحتوي هذه الرسالة على سائر البرامج والمناهج التي قد تحتاجها البشرية، ومن هنا جاء تعدد الأئمة وتعدد أدوارهم والتباين الحاصل في سيرة كل منهم. فلكل إمام سيرة خاصة به، يستلهم منها من يجد نفسه موجوداً في مثل ذلك الظرف، ومحاطاً بذات الجو والعصر وعين تلك الحقائق التاريخية التي عاش ضمنها ذلك الإمام.. فحياة الإمام علي (عليه السلام) هي منهج بيِّن ونور وهدى لمن يريد أن يحكم بارادة المؤمنين وعزمهم، ثم تنقلب وتتكالب عليه القوى المستكبرة وتحاول تغيير مسار حكمه.. والحسن (عليه السلام) ضياء لمن يعيش اليوم في مثل عهد معاوية.. والحسين (عليه السلام) منار لمن يعيش اليوم في مثل عهد يزيد.. وزين العابدين (عليه السلام) يأتي بعد مذبحة كربلاء التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، ليضع برنامجاً في كيفية مقاومة الظالمين وتحديهم في أعتى الظروف، وذلك بوسائل مبتكرة لايمكن للطغاة ايقافها وردعها ومقاومتها، وكذلك الإمام الباقر (عليه السلام) يأتي في مرحلة نضج الحركة الإسلامية، وحاجتها الماسة إلى وعي حضاري كاف وثقافة رسالية واضحة تتحدى بها الأمة الثقافات الوافدة والأفكار المستوردة من الشرق والغرب.
والإمام الصادق عليه السلام تابع مسيرة أبيه (باقرالعلوم) من بعده وفي ذات الاتجاه والمنحى، ولكن بتفصيل أكبر وبكل ما يرتبط بالدين وبخاصة في الفقه الإسلامي. ولقد كان (عليه السلام) يقدّم أنجح الحلول للمشاكل المتجددة كافة في عصره، وكذلك كان شأن سائر الأئمة (عليهم السلام)، حتى الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه)، حيث أصبحت غيبته ومن ثم ظهوره أملا في قلوب المؤمنين وشعلة ضياء أبدية تهب الإنسان المسلم القوة والاندفاع والعزم الشديد والايمان بمستقبل حضارة الإنسان، تمهيداً لاستقبال ظهوره المبارك.
*العلم والجهاد سلاحان حضاريان*
إن لحياة كل إمام تأثيراً خاصاً به يتركه على الآخرين، ولكن هذا لايعني أننا عندما نكون بحاجة إلى حركة جهادية فإننا لانحتاج إلى دراسة حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، وإنما نكتفي بترديد ذكرى وسيرة الإمام الحسين (عليه السلام) وحسب.. إن الأمر ليس كذلك، فحتى لوكنا في ظروف حادة فإننا نحتاج إلى ثقافة رسالية بقدر ما نحتاج إلى زخم جهادي.. تلك الثقافة التي نستوحيها من حياة الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام).
*التشيع شعار وسلوك*
لاينبغي لنا أن ندّعي الاعتراف بالأئمة على أنهم إثنا عشر إماماً باللسان فقط، فهنالك مسافة بعيدة وفجوة واسعة بين الاعتراف اللفظي وبين تحول هذا الاعتراف إلى سلوك وسيرة وحقيقة، فهنالك فرق بين أن نقول نحن أتباع الإمام الصادق (عليه السلام) وبين أن يقبلنا الإمام أتباعاً حقيقيين له.. فليس كل من يدّعي التشيع لأهل البيت والولاء لهم يقبله الأئمة (عليهم السلام)، فبالرغم من أنهم أهل جود وكرم وتسامح، لكنهم وضعوا شروطاً لمن يتّبعهم، فلا يمكننا أن نكون من أتباع الإمام ومواليه قبل أن نتعرف على شخصيته وسيرته كي نسير على خطاه.
إن من لايملك ثقافة سليمة وصافية لايمكنه معرفة الإمام الصادق (عليه السلام) حق معرفته، وسيكون حينئذ مقصّراً في حق هذا الإمام سواء أكان بالافراط أم بالتفريط. وهذا يعني أنه (عليه السلام) قد يرفضه ولايشفع له يوم الجزاء، ولو قرأنا زيارات الأئمة وجدنا أنها تشترط المعرفة التامة بحق الأئمة. ومن هنا لابد لنا أن نتعرف على الإمام الصادق (عليه السلام) وان نوجد صلة حقيقية بيننا وبينه، وكذا مع سائر الأئمة (عليهم السلام).
*كيف ولدت ثقافة الإمام الصادق عليه السلام*
كان الانفراج من سمات عصر الإمام الصادق (عليه السلام) -من الناحية التاريخية- وانشغال الطغاة بعضهم ببعض، فاستغل الإمام هذه الفرصة لبث الأفكار الرسالية على أوسع نطاق. حتى بلغ عدد تلاميذه أكثر من أربعة آلاف، وقد عدّهم البعض ستة آلاف تلميذ، ولقد ألـَّفَ (ابن عبد ربه) كتاباً حول أصحاب الإمام الصادق القريبين منه والمباشرين له الذين استوحوا واستلهموا علومهم من شخص الإمام مباشرة وعدَّهم حتى ناهز عددهم الأربعة آلاف طالب عالم تتلمذوا على يد الإمام (عليه السلام). ولقد كتب آخرون في هذا المضمار أيضاً، ومما كُتِبَ عنه عليه السلام أيضاً مناضراته وأحاديثه مع الغلاة والخوارج والمتأثرين بالفلسفة اليونانية والفارسية القديمة، ومناقشاته مع المذاهب المنحرفة.
*استثمار الفرصة*
هنا نستلهم من أعمال الإمام (عليه السلام) وسيرته فكرةً هامة وهي أنه لو وجد المرء فرصة ما، فعليه ألا يضيعها، لأن استغلاله إياها سيعود عليه بالنفع والأجر الجزيل، فلو وجدنا اليوم فرصة في أي أرض من بلاد الاسلام لنشر المعالم الثقافية للاسلام، يجب ألاندعها تفلت من أيدينا وننتظر يوماً آخر أو نقول: (بأن الثقافة لاتجدي نفعاً)، لأننا لو فعلنا ذلك فان هذه الفرصة قد تذهب ولن تعود.. كما يقول الحديث )الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود(، وعندما نقرأ التاريخ، نجد أن الفترة التي جاءت بعد إمامة الصادق (عليه السلام) انعدمت فيها تلك الفرصة التي كانت سانحة في عهده والتي استغلها وأتيح له بها نشر الثقافة الرسالية المطلوبة، واننا نجد في كثير من البلدان أن هنالك فرصاً مؤاتية تحتاج إلى الاستغلال السليم، حيث نجد -على سبيل المثال- أن الكتب الإسلامية غير ممنوعة فيها وحتى لو منعت فان هناك ثغرات في جدار المنع يمكن تسريب الفكر الأصيل من خلالها، ونشر الثقافة الرسالية عبرها، فيجب ألا نتلكأ في ذلك وأن لانواجه هذه الفرص بنفس سلبي. فالعمل الرسالي كله واجب محتم والثقافة ضرورية فيه كما أي جانب آخر، فاذا استطاع الواحد منا أن يتثقف ثقافة رسالية وكان عاملا في مجال رسالي آخر لايحق له أن يضيع هذه الفرصة ويدعي بأن الثقافة لاترتبط به، لأن الإسلام وأفكاره وشرائعه كل لايتجزأ.
|
|