الجزء الخامس من (تاريخ المراقد)
العمارة الإسلامية تستنطق الحجارة الصماء
|
د. نضير الخزرجي*
لكل أمة ثقافتها، وهي مدعاة فخر لها في وسطها الإجتماعي والأوساط الأخرى، فالمفاخرة دون تعال أو تكبر مسألة طبيعية فطرية وفي غاية من الأهمية لأجيال هذه الأمة أو تلك، إذ يعتز كل جيل بما ورثه من جيله السابق فينمي الصالح من ثقافة الأمة ويشذب الطالح وما علق من شوائب خلال مسيرتها.
والثقافة لا تعني التراث المكتوب من منثور أو منظوم فحسب، فدلالات المفردة أوسع بكثير من المسطور على الرق والورق، فهي تشمل السلوك وطريقة العيش وكيفية التعامل مع المحيط من حيوان ناطق أو غير ناطق، وكيفية التعاطي مع الطبيعة، وهي في حقيقة الأمر كل صغيرة وكبيرة تدخل في تنظيم السلوك الإنساني بما فيه خير الأمة وصلاحها وبما ينمي التعايش الآمن مع الأمم الأخرى، ويغذي عملية التعاطي الإيجابي المزدوج مع ثقافات أمم غيرها دون إفراط أو تفريط، ودون غلو إلى حد تهميش الآخر بزينه وشينه، ودون إقلال إلى حد الذوبان في الآخر بخيره وشره.
والتعاطي مع الحجارة والألوان والريشة في إقامة البناء والعمارة وزخرفتها، هو جزء من معارف الأمة، بخاصة إذا كانت العمارة وزخرفتها فيها استلهام للتراث، لأن رصيد كل أمة بما تحمله من تراث تقدمه لأجيالها وللآخرين، وهذا التراث هو عين هوية الأمة، بها تعرف وبها تتميز على بقية الأمم، فالحجارة وإن كانت هي صماء في ظاهرها تصنف ضمن الجمادات، ولكن يد الفنان وريشته لها القدرة السحرية على بعث الروح فيها واستنطاقها فتحكي بلسان التراث ولسان الحال، ويكون رسول الأمة إلى الأمم الأخرى، فطريقة البناء دالة على الأمة وثقافتها، فنقول هذا بناء روماني وذاك يوناني والآخر إسلامي، والرابع ساساني والخامس فرعوني، وهكذا.. فكيفية وضع اللبنة فوق أختها تحكي عن هوية الأمة، والزخرفة المستعملة بوصلة إلى تراث الأمة.
*تاريخ المراقد في الموسوعة الحسينية *
تُعد العمارة وزخرفتها في المساجد والمراقد والمقامات المقدسة من أبرز عطاءات الثقافة الإسلامية على مدى خمسة عشر قرنا، متوزعة على الدول العربية والإسلامية، وعادت وانتقلت من جديد إلى أوروبا والأميركيتين منذ سقوط الأندلس، ومع تزايد هجرات العرب والمسلمين إلى هذه البلدان في المائة سنة الأخيرة.
وهذا العطاء الثقافي الزاخر والحي، دلع المحقق والبحاثة الشيخ الدكتور محمد صادق الكرباسي لسان بروزه في باب المراقد من دائرة المعارف الحسينية ذات الستين بابا، فصدر الجزء الأول من (تاريخ المراقد .. الحسين وأهل بيته وأنصاره) ثم الثاني والثالث والرابع، وصدر حديثا (1430للهجرة/2009م) الجزء الخامس منه عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 594 صفحة من القطع الوزيري، وهو يغطي بالتفاصيل الدقيقة ظاهرها وباطنها: مقام أم كلثوم بنت علي (ع) في دمشق، مرقد حبيب بن مظاهر الأسدي في كربلاء المقدسة، مرقد الحر بن يزيد الرياحي في كربلاء المقدسة، مقام حميدة بنت مسلم في المدينة المنورة، ومرقد السيدة خولة بنت الحسين في بعلبك.
*حديث الصور*
تعتبر الصورة مرآة تعكس للناظر ما التقطته عدسة الكاميرا أو ريشة فنان أو وصف مراقب، وهي ذات روح تملك لسانا تحدث عن نفسها بنفسها، ولأن الصورة تملك عينين ولسانا وشفتين، فإنها حاضرة في هذا الجزء من تاريخ المراقد بشكل مكثف، مؤرخة لعمارة المراقد والمقامات بالنص والصورة، إذ لا غنى لكتاب يتحدث عن العمارة الإسلامية وزخرفتها، عن الصور، ففي الأمس حيث كانت ريشة الفنان هي العدسة الوحيدة التي تستظهر العمارة والزخرفة والخط، فكان الرسم أو اللوحة محل تشريح وتدقيق الباحثين والمحققين يستنطقونها لتوثيق المرحلة وبيان معالم التراث في فترة من الفترات وفي مكان من الأمكنة، أما اليوم فان الصورة الثابتة والمتحركة أخذت موقعها في عالم التوثيق، وتملك من فصاحة اللسان والنطق ما يفقده الرسم.
ونجد في هذا الجزء – الخامس- فضلاً عن صور المراقد والمقامات من أهل بيت الحسين (ع) وأنصاره التي يتابعها المحقق الكرباسي وفق الحروف الهجائية، صورا حديثة عن المرقد الحسيني الشريف ومقتنياته من تحف وسجاجيد ومزهريات، بذل المحقق جهدا كبيرا في التحقق من مُهديها والمتبرع بها واستظهار الكلمات والعبارات والأشعار المنقوشة أو المنسوجة وإرجاعها إلى أصحابها وبخاصة القصائد المنسوجة على السجاجيد باللغات غير العربية.
*التاريخ يتكلم*
لازال الكتاب والخطباء والباحثون يأتون على حركة الإمام الحسين (عليه السلام) من الحجاز إلى العراق واستشهاده في كربلاء ورحلة الأسر لما تبقى من أهل بيته وعيال صحابته إلى الشام والعودة إلى المدينة المنورة، وهم يتوقفون طويلا عند مكة المكرمة وكربلاء المقدسة ودمشق، كون الأول منطلق النهضة الحسينية على طريق إصلاح الفساد في الأمة الإسلامية والثانية محط الشهادة والثالثة المكان الذي وضع فيه الرأس الشريف للإمام الحسين (عليه السلام) ونهاية الأسر، ولاشك أن المقام لدى كتب السير والمقاتل يطول في كربلاء.
هذا هو السائد في الحركة التاريخية لسبط النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، ولكن ما هي المنازل والمحطات التي نزل فيها الإمام الحسين (عليه السلام) حتى استشهاده؟ ومنازل الأسرى، ومتى انطلق الركب الحسيني وركب الأسرى؟ ومتى توقفا في هذا المنزل أو ذاك؟ ومتى تحركا عن هذا المنزل أو إلى الآخر، وما هي الجادة التي سلكوها صباحا أو نهاراً، كل التفاصيل استطاع المحقق الكرباسي بمنظار الحقيقة المعرفية التثبت منها ولأول مرة في تاريخ النهضة الحسينية، مستعينا بالخرائط القديمة والحديثة، متبحرا في متون الكتب التاريخية والجغرافية يفتح مغاليق نصوصها، واضعا الخرائط الدقيقة في المكان والزمان لخمس مراحل مر بها الإمام الحسين (عليه السلام): من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، ومن مكة المكرمة إلى كربلاء المقدسة، وحركة الأسر من كربلاء المقدسة إلى الكوفة، وحركة الأسر من الكوفة إلى دمشق، وحركة ما تبقى من أسرة الإمام الحسين وأصحابه إلى المدينة المكرمة مروراً بكربلاء المقدسة.
*أبناء الدليل*
من الصفات المهمة التي يتميز بها المحقق والباحث أن تكون قراءاته للحدث التاريخي قراءة واعية ومتأنية، لأن القطع بالشيء قبل استحكام أدلته ورسو آياته يبعد الباحث عن ساحل الحقيقة ويرمي ببصره خارج دائرة الصواب، فيضيع في متاهات التاريخ ومساربه، ويجر الآخرين معه إلى وادي الضياع المعرفي.
يقف المحقق الكرباسي ثابت القدم لبيان الحقيقة وإن كانت مرة عند شريحة كبيرة تسالمت على ما يراه الكرباسي خطأ تاريخيا، ولا ينساق إلى عواطف الناس إذا ما توضحت لديه الصورة، لأن بيان الحقيقة عنده أهم من العواطف، والانجرار خلفها بعيدا عن الواقع هو إغراء بالجهل وتعمية للأمة، وهو ما تحاربه رسالة الإسلام الداعية إلى إعمال العقل والركون إلى الحقيقة إذا ما بانت خيوطها للباحث، فديدنه الدليل وهو ابنه يتعبد في محرابه رافضا أصنام الجهل والتجهيل.
وفي هذا الإطار وعلى سبيل المثال ومن خلال دراسة مرقد السيدة حميدة بنت مسلم بن عقيل بن أبي طالب التي حضرت واقعة كربلاء، يرى الشيخ الكرباسي أن القبر الموجود في دمشق إنما هو مقام أسرها وليس مرقدها، ويرجح أنها دفنت في مقبرة البقيع في المدينة المنورة، كما يرفض المراقد الموجودة في دمشق إلى جانب قبر حميدة والتي منها ما تشير إلى السيدة أم سلمة والسيدة أم حبيبة زوجتي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فعنده أن (أم سلمة) هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية المتوفاة سنة 61 للهجرة دفنت في البقيع وقبرها يزار بالقرب من مرقد عقيل بن أبي طالب، وأما (أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان الأموي المتوفاة سنة 42 للهجرة هي الأخرى دفنت قرب أم سلمة. وعلى خلاف الشائع فإن المدفونة في ضاحية دمشق والمعروفة اليوم باسم (منطقة السيدة زينب)، وكما توصل إليه الكرباسي، إنما هي السيدة أم كلثوم بنت علي وفاطمة المتوفاة عام 61هـ وليست السيدة زينب الكبرى بنت علي وفاطمة (سلام الله عليهما) المتوفاة عام 62هـ فهي مدفونة في القاهرة. وهكذا الحال في مرقد سكينة بنت الحسين (عليها السلام)، واختها فاطمة بدمشق، فهو مقامهما أثناء الأسر وليس مثواهما، وهكذا الأمر في عدد من المراقد الأخرى.
*الرأي الآخر للدراسات – لندن
إعلامي وباحث عراقي
|
|