الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سلامة المجتمع
|
*محمد موسى
أشار بيده لسائق حافلة نقل الركاب الصغيرة والمعروفة في العراق بـ (الكيّة)، فوقفت الحافلة لينضم الراكب الجديد الينا... كان شاباً أنيقاً لم يتجاوز العشرين من العمر، وما ان استقر في مكانه حتى استلّ من جيبه جهاز الموبايل، واذا بالشاب يطلق العنان لجهازه الصغير بأن يصدر أصوات الغناء والموسيقى التي عمّت أجواء الحافلة الصغيرة التي ربما لاتتجاوز مساحتها الاربعة امتار مربع، وتزدحم بالركاب من مختلف الفئات والاعمار.
أخذ هذا الشاب يقلب في ملف صوتياته، فتارة نسمع الموسيقى وتارة اخرى الأغاني الغربية ومرة أخرى أغاني عربية ومحلية وأدعية و ردّات حسينية...!! حتى استقر الشاب على إحدى الاغاني، غير مكترث بالجالسين بالقرب منه، وربما كان يشعر أنه جالس لوحده في غرفته الخاصة، فكرت في أن أنصحه بضرورة إغلاق جهازه، ولكن فكرت ثانية بالكيفية التي سأطلب منه ذلك...؟ وان لم يستجب لطلبي ألا يكون الامر محرجاً لي؟ وان طلبت منه بصوت مسموع أمام الآخرين ألا يتسبب ذلك باحراجه؟ ومن ثم تكون له ردة فعل من النصيحة... ثم هل ان الآخرين يشاطرونني الموقف أم انهم راضين بما يسمعونه؟
وفيما أنا متأرجح في افكاري وإذا بالشاب يطلب من السائق التوقف لمغادرة الحافلة، لتتوقف ماكنة افكاري واستريح، لكن بدأ نقاش وكلام على صعيد الحافلة وركابها، حيث بدأت الاصوات وبشكل مفاجئ تعلو من هذا وذاك مبدين استنكارهم واعتراضهم لما كان عليه ذلك الشاب الذي غادرهم للتوّ... هل لاحظت مظهره...؟ ما هذا السلوك من ابناء هذا الجيل...؟ ما هذه العادة المنتشرة بين الشباب يسمعون الاغاني في كل مكان...؟ وغير ذلك من عبارات الاستنكار؛ ومنذ ذلك الحين قررت ان أبحث عما يعينني في أداء واجب من واجبات الإسلام، الا وهو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا به بحر لا ينتهي ممتد على مدى البصر. لكن لابد من البحث عن الوسائل والسبل الكفيلة بنجاح هذه الفريضة الالهية والمهمة الاجتماعية.
الحصانة من الآفات الاجتماعية
إن (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) لم يشرع ليكون اداة قمع وكبت كما يُخيل للبعض، إنما هو بالحقيقة هبة إلهية لافراد المجتمع ليكونوا محصنين من الآفات الاجتماعية والاخطاء التي ربما يتعرض لها الانسان دونما قصد منه، وكما ان جسم الانسان بحاجة الى جهاز مناعة يقيه خطر الفيروسات المنتشرة في الجو بل وحتى بعض العوارض المرضية، فان روحه ايضاً بحاجة الى جهاز مناعة ذات طابع معنوي من سنخها، فالبدن ذو الطابع المادي بحاجة الى التغذية الصحيحة والاجواء النقية وجملة من الاجراءات والانظمة الحياتية التي تحافظ على سلامة جهاز المناعة بحيث يجعله صامداً امام فيروس الزكام او فيروس الحمّى او أي طارئ يخترق بدنه، فهو ربما يمرض لفترة من الزمن، لكنه يعد نفسه بالشفاء بعد فترة قصيرة، فهو يعيش الأمل والحياة، بينما الروح فهي بحاجة الى سلسلة من الاجراءات الوقائية تنظمها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليبقى سمعه وبصره ولسانه بعيداً عن المناطق الملوثة فيتلوث القلب ويتعرض للرين والصدأ، وهذا بالحقيقة يكون أشبه بالسرطان في بدن الانسان، لأن التلوث اذا وجد طريقه السالك والمفتوح الى القلب فانه من الصعب انقاذه حتى وان حاول الانسان اغلاق سمعه وفمه وعينه عن الحرام، لأن ببساطة هذا القلب نفسه هو الذي سيدعوه الى ان يفتح عينيه وأذنيه بل بقية جوارحه للحرام!
من هنا كان التأكيد على اهمية هذه الفريضة في تكريس الايمان لدى الفرد والمجتمع معاً، جاء في الحديث الشريف: (وما أعمال البر كلها الى جانب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كقطرة في بحر لجيّ). كما نجد ان قوة ايمان المجتمع تقاس بقوة تصديه للظواهر اللااخلاقية وانتشار الميوعه بل حتى لحالات تحكيم القيم اللادينية في ميادين الساسة والاقتصاد وسائر شؤون الحياة.
وقبل ان نتعرف على الطرق الكفيلة لأداء هذه الفريضة بأحسن وجه، ينبغي ان نعرف مراتب ومراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ثلاث مراتب كما بينه الحديث الشريف والمشهور: (من وجد منكم منكراً ليغيره بيده وإن لم يقدر بلسانه وإن لم يقدر بقلبه فذاك أضعف الايمان).
1ـ الردع بقوة اليد...
لقد عرفت الانسانية ان الاسلام دين السماحة والعفو والرحمة، وهي صفات حباها الله تعالى لهذا الدين القيّم، لكن في نفس الوقت زوده بامكانات ردع قوية لكنها مطلوبة ومفيدة، لذا لا أحد يعترض على عملية الجلد التي يتعرض لها الزاني او الزانية – والعياذ بالله- ولا عندما يُسجن السارق او المتعدي على حقوق الآخرين، وبما ان المنكر العابر الذي نشاهد اشكالاً وانواعاً منه في الشارع او سيارة الأجرة او محيط العمل وفي كل مكان، إنما هو بالحقيقة مقدمة للجرائم الكبيرة التي تحصل ويتورط بها صاحبه والمحيطين به والمجمتع بأسره، لذا لابد من وجود القوة الرادعة سواء كما هي نجد شرطي المرور وسط الشارع، فهو لا يهدد أصحاب السيارات ويسبب لهم الازعاج والاستفزاز، لكنه يوقف ويردع المخالف للقانون وحسب، لذا نجده محبوباً عند الجميع.
2ـ النصح بالكلام، أي مرحلة النصح والارشاد والوعظ والتذكير بالله وبالعقاب والثواب، في هذه المرحلة يجب ان يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ذا مقبولية لدى الطرف الآخر وان يكون كلامه موزوناً في الوقت والمكان المناسبين حتى لا يؤدي الى جرح الآخرين وبالتالي الى ردة فعل عكسية.
3ـ المرحلة الأخيرة أو الخيار الاخير: هو القلب، أي الاستنكار والاعتراض بالقلب بإظهار الانزعاج والتذمّر أمام صاحب المنكر ليعرف ان من حوله ليسوا مسرورين بما يفعل، وهذا ما يعبرعنه الحديث الشريف بانه (اضعف الايمان)، ولعل سبب هذه التسمية يعود الى الحالة الاجتماعية التي يكون ايمان الناس فيها اضعف من المنكر وهو مجرد فيروس طارئ على حياة الانسان، ويكون المعروف شحيحاً والنصيحة خجولة متراجعة. وهذا بالحقيقة هو الذي يشجع حالات المنكر من الانتشار كالسرطان في جسد المجتمع.
الصفات المطلوبة
يختلف الناس فيما بينهم من حيث القدرات الذهنية والجسمية والامكانيات المادية، وفي ضوء ذلك يختلفون في مراتب التكليف والمسؤولية التي تتناسب مع طاقاتهم وامكانياتهم؛ من هنا يرى العلماء وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القادرين على القيام به وادائه بالصورة التي تحقق الهدف المرسوم له. وعليه فان ثمة مواصفات لابد من توفرها في هذا المجال:
أولاً: العلم والمعرفة.
فمن يريد ان يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب ان يكون على دراية تامة بمجمل تفاصيل وتعاليم هذه الفريضة، كما هي فريضة الصلاة والصوم والخمس والجهاد وغيرها من فروع الدين، لابد من أدّاها بمعرفة تامة وإلا انقلبت وبالاً على صاحبها وتستوقفه يوم القيامة بانه أدائها غافلاً او جاهلاً، وهذا يُعد مجافاة للدين. ومن المعارف والعلوم ، الإلمام بالعلوم الدينية كالفقه والاصول والمنطق والتفسير والحديث، فهو تعين صاحبها على اقناع الطرف المقابل بخطأ ما يفعله.
ثانياً: قوة البيان.
وهذا أهم سلاح يجب ان يتوفر للانسان المؤمن الذي يروم مواجهة المنكر وفيروس الانحراف، لأن الواضح ان ظواهر المنكر والانحراف من الحالات التي يقربها الشيطان الى نفوس العباد، فتكون محبوبة ومقبولة، لاسيما اذا ارتبطت القضية بالجنس، فان الخوض في حديث بهذا الشأن بحاجة الى قوة بيان وتأثير على النفوس، وإلا كانت النتيجة عكسية وخطيرة للغاية، حيث يشعر الطرف المقابل انه على حق ومن ينهاه على باطل وهو بعيد عن واقع الناس والشباب و...!!
ثالثاً: الظروف الموضوعية.
يعيش مجتمعنا في الوقت الحاضر ظروفاً غير طبيعية، فقد تكالبت عليه وسائل التأثير، فأينما يكون يجد انه محاط بوسائل التأثير القادمة من خارج حدود الاسلام، فمنذ خروجه الى الشارع يلاحظ بعض النسوة بالملابس الضيقة او زيادة الاذاعات المسموعة ببرامجها الهادفة الى التمييع واللهو والطرب، وفي محيط العمل يجد احياناً اشكالاً وانواعاً من الابتعاد عن القيم والتعاليم الاخلاقية والدينية، أما في البيت فانه امام مشكلة القنوات الفضائية، وغير ذلك كثير...
هذا الوضع الخانق يجعل ليس النهي عن المنكر، بل حتى الأمر بالمعروف وهو الخطوة الأولى والأساس، مهمة صعبة وشاقة، لكنها ليست بالمستحيلة على من يحاول توفير الشروط والمواصفات في نفسه، صحيح انه قد يجد نفسه وحيداً في محيط عمله او داخل سيارة الأجرة او في الشارع أو مع اصدقائه امام القنوات الفضائية او أي مكان آخر، إلا قدرته على البيان واقناعه الآخرين بالتي هي أحسن سيجد انه حقق انجازاً مهماً، وقبل ذلك سيكون موضع احترام واعتزاز المحيطين به لأن تحدث بما يفيد الآخرين ويضفي عليهم جواً من المودة والكرامة والاحترام، ومن الناحية العقلية من المستحيل ان يتنكر الانسان للمعروف والاحسان، خذ شخصاً يفتح باب بيته أمام جاره وهو يحمل له أواني مليئة بالطعام والشراب، هل يرفضها...؟! أو تجاوز على شخص بكلمة جارحة ألا يبحث عنه ويرجو عفوه واحسانه؟ فاذا كان الانسان يريد المعروف لنفسه ويبعد عنها المنكر والخبائث، عليه أيضاً وبحكم العقل ان يطبق ذلك على صعيد المجتمع، ليكون هو وغيره من اخوانه في سلامة من دينهم واخلاقهم.
|
|