الثورة الثقافية .. خطوة للّحاق بركب التقدم
|
*كريم الموسوي
في ظل الاوضاع التي تعيشها البلاد الاسلامية من غموض في الرؤية وتناقض شديد في التوجهات الفكرية والثقافية الى حد المواجهة والتراشق بالاتهامات عبر وسائل الاتصال الحديثة (الانترنت – القنوات الفضائية)، تبرز اهمية الثورة الثقافية لازاحة كل ما علق بالاذهان من رواسب وشوائب وإعادة الصورة الناصعة التي كانت على عهد رسول الله وفي فجر الدعوة الاسلامية.
لكن قبل الخوض في تفاصيل الموضوع لابأس من تعريف بسيط للثقافة، ولو ان هذه المفردة أحيطت بتعاريفات عديدة، احداها: هي المعرفة التي تؤثر في عقيدة البشر وسلوكه، ومن هنا تشمل الثقافة في مصطلحنا الدارج الآن الفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والاجتماع، وتفسير التاريخ والشريعة وما أشبه، وتجمعها كلمة واحدة هي: (كل ما يتأثر بالرأي أو النقل فهي ثقافة).
وعلى ذلك فليست علوم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات، ما شابه ذلك من الثقافة إلا بعيد، وذلك الوجه هو عند استخلاص النتائج العامة من هذه العلوم حيث تدخل آنذاك ضمن الثقافة لأنها تدخل في نطاق الفلسفة.
فلو أراد احد مثلاً أن يستكشف من ظاهره طبية (حكمة الله) ويوجه الناس بها إلى الله سبحانه كان موجهاً ثقافياً، إذ ان استخلاص هذه النتيجة من العلم والاستفادة منها في التربية المعنوية يكون عملاً ثقافياً.
والمنطق الاسلامي يسمي الثقافة بـ (العلم) ويسمي الذي نسميه بالعلم باسم آخر هو (الحكمة) ولذلك يأمر بأخذ العلم من القيادة الاسلامية خاصة في حين يحث على اخذ الحكمة من كل انسان كافر أو مسلم، اذ يقول الحديث الشريف: (الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها اخذها)
لماذا الثورة الثقافية؟
هناك فارق بين (الثقافة الاسلامية) و (ثقافة المسلمين)، وبدلاً من ان يكون هذا الفارق مناسبة لعلاقة تكاملية ويكون المسلمون حملة للثقافة الاسلامية، وجدنا اليوم ان المسلمين يحملون ثقافات غير التي جاء بها الاسلام وسنّها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وبما ان المسلمين أمة من الناس عاشت متفاعلة مع الحياة بما فيها قمم وسفوح، وتحلق واسفاف، وارتفاع وهبوط، فقد تأثرت الثقافة لديهم بفعل دوافع نفسية عديدة من قبيل حب المال والجاه والسلطة والغرائز العابرة. فتشكلت ثقافة عند المسلمين نابعة بالدرجة الاولى من سلوكهم وعاداتهم .
وبالرغم مما تضمنه القرآن الكريم من ثقافة ونظام، وصرّحت بذلك آيات عديدة منها: "هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة /2)، الى جانب السنّة الشريفة، إلا ان تأثر المسلمين بثقافات بعيدة عن الاسلام جعل الهوّة كبيرة بين ثقافتهم وثقافة الاسلام الاصيل.
وهنا من الجدير الاشارة الى ثلاث ثقافات تورط بها المسلمون وما يزالون الى حدٍ كبير، وقد جاءت متعاقبة ثقافياً وليس زمنياً:
1- الثقافة الجاهلية.
حاولت طائفة من المسلمين العودة بالناس الى ما قبل فجر الدعوة الاسلامية وظهورالوحي الإلهي، مبتدعين معارف بغير هدى من الله ولا شفيع من العقل ولا كتاب منير، فضلّوا وأضلوا، وخير من يصف هؤلاء هو أمير المؤمنين وسيد المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله: (يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا، إياكم واصحاب الرأي فانهم اعداء السنن، تفلت منهم الاحاديث ان يحفظوها، واعيتهم السنّة فيقولوها، اتخذوا عباد الله خولاً وماله دولاً، فذلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق، أشباه الكلاب، نازعوا الحق أهله، وتمثلوا بالأئمة الصادقين، وهم من الكفار الملاعين، سُئلوا عما لا يعلمون فأنفوا ان يعترفوا انهم لايعلمون ، فعارضوا الدين بآرائهم، فضلّوا وأضلّوا...)
وكان من هذه الطائفة المتكلمون (الأشاعرة والمرجئة ومن اليهم) الذين عزلوا الشريعة عن الفلسفة خطأً أم تعمداً، فأولوا النصوص أو قالوا لا نفقه معناها، وأرادوا إنشاء ثقافة جديدة في معزل عن الكتاب والسنُة، وكان من بينهم ايضاً من قال بالقياس في الأحكام فنبذوا آيات القرآن وراء ظهورهم بحجة مخالفتها لعقولهم ولمقاييسهم الزائفة.
أما السنة فقد استضعفوا اسانيدها فقالوا: انها لا تفيدنا إلا ظناً...! وقد بلغ الجهل بطائفة من هؤلاء حتى انكروا رأساً وجود ثقافة اسلامية زاعمين بأن الدين ليس إلا مجموعة مثل وتقاليد وطقوس ولا ربط له بالفسلفة والمنهج والنفس والاجتماع وغيرها من العلوم، مخالفين بهذا الزعم الهشّ اكثر ما في القرآن الكريم لأن اكثر ما فيه متعلق بهذه الشؤون الفكرية.
2- الثقافة الاغريقية.
لم تكن حركة الترجمة تهدف تربية الامة وتوسيع أفقها دون النيل من تراثها، وسلب هويتها وتشويه شخصيتها فلذلك كانت حركة ذات اثر سلبي على فكر المسلمين وثقافتهم، حيث ذاب أمامهم الفكر الأصيل واستعيض به التقليد في كل من منهاج البحث والمنطق وفلسفة الكون.
3- الثقافة الاوربية.
وأخيراً، لقد ذوّبت المدنية الغربية الشخصية المستقلة التي كان تتقمصها أمم الأرض، ومنها الأمة الاسلامية التي ذُوبت في أتون تقدم الغرب العلمي والتكنولوجي وتوسعه الاستعماري وانطلاقه الفكري، فاذا بالمسلمين يركعون أمام الزحف الغربي دون ان يرفعوا رؤوسهم ليبصروا فيها الضعف والضلال، والسلبية بجانب القوة والبناء. وبذلك اصبح الفكر الغربي لدى المسلمين موسوماً بعلامة و إشارة واحدة وهي: القوة، فيما بات الفكر الاسلامي لديهم مشدوداً بالضعف والضلال.
الثورة خطوة نحو البناء
لو فتشنا عن الجذر البعيد الذي تنتهي اليه كل التطورات التاريخية والتغييرات الاجتماعية لما عثرنا على شيء إلاّ داخل النفوس البشرية التي انبثقت منها هذه التطورات والتغييرات. إذ ان نفسية الفرد هي التي تصنع شخصيته وتصبغ احداث حياته بلون مختلف تماماً عن أي فرد آخر، فلم يكن اكبر العباقرة والمكتشفين وأشهر القادة وأشجع الابطال ليصبحوا كذلك إلا حينما وجدت في نفوسهم (نفسيات) منسجمة مع هذه المراتب. فالبطل الشجاع ينمو في بيئة تكره الجبن والخذلان والغدر، فنرى يستمد سلوكه وعاداته من هذه الصفات، كذلك القادة الناجحين والعلماء البارعين فهم بالحقيقة كانوا يحملون ثقافة استمدوها من بيئتهم وجذورهم جعلتهم يكونوا عاملاً أساس في نهضة بلادهم وأمتهم نحو التقدم والتطور، وبمطالعة سريعة لسيرة حياة أحدهم نجد الاصرار والتحدي ومواجهة الصعاب مهما كانت من اجل تحقيق اهدافهم وطموحاتهم.
واذا كانت نفسية أمتنا هي التي انحدرت بها إلى هذا (الواقع الفاسد) فإن تغييرها أولى ضرورات النهضة والانطلاق. فقد كانت الامة الاسلامية تتغذى بمعارف السماء، التي جمعت إلى استقامة التوجيه قوة المنطلق، والى روح النشاط عمق التبصر، فبدلت بها ثقافة غير متوازنة الأطراف، ولا منسجمة القواعد والبناء. ولا قادرة على الجري والانطلاق، وكان بداية تبديلها نهاية انطلاقها ومنعطف مسيرها حتى أدت بها إلى واقعها الذي نرى.
لقد آل أمر الأمة الاسلامية إلى ما هو عليه الان حينما بدلت الأمة دينها و تجاهلت قوله تعالى: "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغّيروا ما بأنفسهم" (الرعد /11)، هذه الكلمة التي تحمّل البشر كامل مسؤوليته في الحياة و تعطيه المزيد من سرعة الحركة وقوة الانطلاق. لكنها استبدلته بقول الإغريق: (كل شيء قدر محتوم)، حتى ارادة البشر مفروضة عليه من القدر، وهي المقولة التي تخمد جذوة الاندفاع من نفس كل بشر يعتقد بها والى الابد!
وحينما كان بين يديها قوله تعالى: "وان ليس للانسان إلا ما سعى وان سعيه سوف يرى" (النجم /39)، وكثير من الآيات والاحاديث المشجعة على العمل والنشاط والحيوية، أخذت بشكل عجيب بقول المرجئة (ان الله يغفر بغير سبب لكل مذنب)، أو قول الأشاعرة: (ان الله قد يعذب المحسن، ويثيب المفسد لأنه لا يعمل وفق مقاييس معقولة)!!
ولابد من الاشارة هنا الى ان اوربا لم تنطلق في مسيرتها التقدمية صناعياً وثقافياً الا بعد ان تخلّت عن منهج الاغريق، واستبدلته بمنهج بيكون وديكارت المشابه للمنهج الاسلامي. فيما نلاحظ الأمة الاسلامية ما تزال تحوم حول ثقافات وافكار هي بالحقيقة نفايات الثقافة الغربية او رواسب الثقافة الجاهلية، والأنكى من ذلك نرى ان العالم يعيش ثورات فكرية وثقافية، يستبدل رؤى واستنتاجات بأخرى يراها اكثر صوابية وعملية واقرب الى العقل والواقع، كما حصل في الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومته الشيوعية في اوربا الشرقية، فقد تخلّوا عن الاشتراكية الفاشلة، وحطموا قيود النظرية الماركسية التي كبّلت الانسان في دوامة الصراع الطبقي، ودفعته نحو الانتاج والسوق الحرة، مع التأكيد على انهم اختاروا افضل الخيارات السيئة لديهم، فالرأسمالية لم تتمكن من تحقيق السعادة للانسان لا في الماضي ولا في الحاضر والمستقبل. لكن مع ذلك نجدنا ما نزال نحمل عادة التأثّر بالآخرين ولم نستعيد الثقة بانفسنا وتراثنا، وهو الذي يحتاج الى ثورة وانتفاضة ثقافية عارمة تكتسح جميع الترسبات والافكار الدخيلة وتريح النفوس من الكدر واليأس والاحباط، لكن هل يمكن فرض النهضة على الأمة دون أن تبلغ هي مستواها وتصبح جديرة بها؟ وهل يمكن إطلاق الأمة من أغلالها النفسية دون أن نشعرها بثقل هذه الأغلال وضرورة التخلص منها؟ هل يمكن فرض الانتصار على الامة في معاركها الحضارية، والامة تقف -عملياً- بجانب اعدائها ضد أصداقائها... بل ضد مستقبلها ومصلحتها؟!
ان الثورة الثقافية تنطلق من داخل النفوس والوجدان وهو قرار كل مسلم ومؤمن غيور على قيمه ومبادئه التي يرى انها تستهدف كل يوم بل كل لحظة وهو يسير في الشارع او يتابع مختلف البرامج والموضوعات عبر (الانترنت) و وسائل الاعلام، هذه الثورة والانقلاب هو الذي يمهد لبناء فكري وثقافي جديد على أساسه نتقدم صناعياً وزراعياً وعلمياً وفي جميع مناحي الحياة.
طبعاً يبقى السؤال الجدير هنا؛ كيف يا ترى نقوم كهذه بثورات عارمة؟!
انه سؤال مهم وأساس لابد من الاجابة عنه لتكون الصورة واضحة ومتكاملة، ونأمل ان نوفق لذلك في مقال قادم إن شاء الله تعالى.
|
|