العقائد بين العقل والعاطفة
|
*أنور عزّالدين
قد يستمد الإنسان عقائده وأفكاره من عواطفه وأحاسيسه، ومن الناس من يجعل عقله قاعدة ومنطلقاً لمعتقداته. فالنموذج الاول تعجبه المظاهر ويتأثر بها ويسير خلفها؛ بمعنى أنه يكون تابعاً لهواه، فهو يضع اللون والشكل والجمال أمام عينيه اللتين تسيّرانه غالباً. أما النموذج الثاني فيجعل العواطف والتأثر بالمظاهر تابعاً للعقل والحكمة، فإذا أراد شراء بيت مثلاً، فكّر في موقع البيت، واختار نوعية الجار، وتأكد من متانة ورسوخ قواعد البناء، ثم اختار البيت، وذلك كله وفق قواعد العقل والحكمة، لا الإعجاب والافتتان بمظهر وجمال البيت. وهكذا هو شأن سيرة النموذج الثاني في كآفة مناحي الحياة.
والآن إذا سألت زيداً من الناس عن سبب اعتناقه الدين الاسلامي دون سواه من بقية الأديان، فإنه ـ وهذا هو حكم الأغلبية ـ لايسعه من الإجابة إلا بنسبة اعتناقه إلى أبيه وأمه وقومه، في وقت تأكد لنا بأن محيط الوالدين والعائلة والمجتمع لا يصنع الحق ولا يصنع الواقع، لذا نرى الحكماء من الناس يجيبون عن هذا السؤال المهم بأنهم قد فكروا وبحثوا وتوصلوا إلى الحقيقة فاقتنعوا بها. إذن، الفرق كبير بين هذين النموذجين. فمن يعتقد ويعتنق هذا الدين بدافع العواطف والأحاسيس، لن يضمن عدم انقلابه بانقلاب العواطف والأحاسيس؛ فهو مؤمن بالله مادام الآخرون الذين تأثر بهم مؤمنين، أما إذا تغيرت عوامل تأثره بفعل تغير محيطه، تراه يبحث عن لون جديد وثوب جديد ليتقمصه.
والقرآن الكريم يضرب لنا مثلاً رائعاً في قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام، إذ كان يؤمن يقيناً بالله سبحانه وتعالى وبقدرته المطلقة، ولكنه أراد ترجمة هذا اليقين الى حالة يلمسها هو لتكون للآخرين خير تجربة تغنيهم عن عناء كبير وخسائر فادحة، فبدأ رحلة الشك الى اليقين. يقول الله تعالى بهذا الصدد: "وكذلك نري إبراهيم ملكُوت السماوات والارض وليكون من الموقنين* فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلمّا أفل قال لا أحبُ الأفلين* فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لّم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضّآلّين* فلمّا رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا اكبر فلّما افلت قال ياقوم إنّي بريءٌ ممّا تُشركون* إني وجهت ُ وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفاً ومآ أنا من المشركين" (الانعام، 75-79)
فالنبي إبراهيم عليه السلام أراد للمسلمين اعتقاداً دينياً قائماً على أساس التسلسل المنطقي السليم، المنطق الذي يدرك ويعي صفات الرب المعبود تمام الإدراك والوعي.
أساس العقيدة
وحينما نأتي الى معرفة الانبياء والرسل، نجد ثمّة فرق كبير بين أن نعرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كأول شخصية عالمية ناجحة، قاد الأمة وبنى حضارة... وبين أن نعرفه رسولاً من عند الله تعالى. فحينما نقول: محمد رسول الله؛ فهذا بمعنى أننا نؤمن بأن عيسى بن مريم رسول الله، وان موسى بن عمران رسول من عند الله، وأن إبراهيم رسول من عند الله، لا نفرق بي أحد من رسله.
وهكذا الامر بالنسبة الى امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فبعض الناس يتحدث عنه؛ بانه ذلك البطل العظيم الذي طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم حتى نادى جبرئيل عليه السلام بين السماء والارض: (لافتى إلاّ علي، لا سيف إلا ذو الفقار)، كان يحصد رؤوس الكفار بسيفه ، وخلال إحدى المعارك طلب أحدهم منه سيفه، فلم يمتنع عن إعطائه إياه، فقيل له (يا أبا الحسن...! كيف تعطيه سيفك؟ فقال عليه السلام: (إني لاستحي من الرجل يطلب مني شيئاً ثم أرده). فبطولته بطولة، وكرمه كرم، وإحساسه إحساس.
فمرة نعتقد به، ذلك الزاهد العابد الذي كان يصلي في كل ليلة ألف ركعة، وهو الذي كان يناجي ربه في حديقة بني النجار ثم يقع مغشياً عليه من شدة العبادة وخشية ربه. ومرة نعتقد به، ذلك الكافل للأيتام الحاني عليهم، الذي إذا رأى يتيماً انهالت دموعه. وهذا الاعتقاد بجملته اعتقاداً صحيحاً ولكنه نابع من الاحساس والعاطفة. والاعتقاد الصحيح بعلي بن أبي طالب عليه السلام هو معرفته كامتداد مباشر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث عرفنا رسول الله ، رسولاً من عند الله سبحانه وتعالى.
فالفرق يبدو كبيرا للغاية بين أن نعرف علياً مؤطراً بإطاره الخاص وبسيرته الخاصة فقط، وبين أن نعرفه ممثلاً شرعياً لرسالة نبينا الأكرم محمد صلى الله وعليه وآله وسلم. إذن، فالقناعة بالمعتقد ينبغي ألاّ تكون قناعة مشتتة ومبعّضة، بل يجب أن تكون قناعة واحدة مستمدة من أصل وقيمة وشرف في كون جميع الانبياء والرسل والائمة الهداة عباد الله جل اسمه. فلو سأل سائل رسول الله محمد صلى الله وعليه وآله وسلم عن أحب واكرم صفة يفضل إطلاقها عليه لقال: إني عبد الله.
ومن طبيعة العقيدة الدينية انه كلما ازداد أيمان الانسان بالله تعالى، كلما ازداد إيمانه بالرسول؛ وكلما ازداد إيماناً بالرسول كلما تضاعف إيمانه بأهل بيته، وكلما آمن باهل البيت عليهم السلام ازداد عملاً بما أمروا به، واجتنب ما نهوا عنه.
حقيقة الازمة البشرية
فلو ادعى شخص من الأشخاص أنه يحب الله تعالى ويقدسه، ولكنه في الوقت ذاته ينكر ضرورة إتباع الرسول، فان مثل هذا الاعتقاد مرفوض رفضاً قاطعاً، ذلك لأن الله سبحانه لم يرد لنا مثل هذا الحب، حيث قال سبحانه وتعالى على لسان أنبيائه لاقوامهم: "قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" (آل عمران،31). فحب الله يكمن في اتباع الرسول، وهذا الاتباع لايمكن تصوره دون اعتقاد وحب، وقد قال الله تعالى في آية قرآنية كريمة أخرى: "وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ ليطاع بإذن الله ولو أنّهم إذ ظلمواْ أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدووا الله تواباً رحيماً" (النساء /64). فالله عزوجل أشار الى الباب الذي ينبغي ان ندخل عليه منه، إذ الانبياء هم وسائل الله.
ولعل ثمرة هذا الاعتقاد تكمن في أن يمتنع الأنسان المؤمن عن التهرب من مسؤولياته التي ألقاها الله على عاتقه، هذا التهرب الذي يشكل اليوم الأزمة التاريخية للبشرية، وهو الانعكاس المباشر لحالة الفوضى التي عصفت وتعصف بالبشرية منذ البداية، حيث يريد كل منهم أن يختط منهجاً لنفسه ليرقى زعماً من عند نفسه القمة.
فالتمرد على الأنبياء عليهم السلام يمثل بحق أزمة البشرية الحقيقية منذ القدم، إذ كان الناس يرفعون يافطات التبرير لرفضهم الأنبياء، فمرة كانوا يأخذون على الأنبياء كونهم يمشون في الأسواق ويعملون لمعيشتهم، ومرة يأخذون عليهم كونهم ليسوا ملائكة، ومرة لا يؤمنون بهم كونهم غير أقوياء من حيث الامكانات المادية، ومرة يأخذون عليهم أنهم قد جمعوا حولهم الضعفاء والفقراء. وبنو البشر بين هذا وذاك يقيدون أنفسهم بأغلال التهرب من حكومة الله إلى أوهام التكبر والتمرد على إرادة الله سبحانه وتعالى وطاعة أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ولقد كان الله قادرا تمام القدرة على ان يدحض جميع المعاذير التي يرفعها الكفار بوجه الأنبياء منذ البداية، ولكن الحكمة الربانية شاءت ان ترسل الأنبياء بشرا تحكمهم السنن الكونية كما تحكم غيرهم. فكانوا بشراً يمشون في الأسواق لا يعلمون الغيب إلا بما شاء الله، ولا يملكون من المواهب الا كما يملكها غيرهم ويزيدهم الله من فضله بما شاء، وذلك لأسباب عديدة، منها ان يكون هؤلاء الأنبياء حجة على الناس من حيث الايمان بالله تعالى.
ان الله سبحانه وتعالى أراد للشخصية الانسانية ان تتبلور عبر هذا الامتحان الدقيق الذي يتجسد بطاعة الانبياء في ظروف العسر والشدة، فتستحق هذه الشخصية الثواب الإلهي الموعود.
من هنا فان العقل حينما ينظر الى الحكمة الموجودة في هذا الكون من منظار الآيات القرآنية الكريمة، سيصل قلبه الى معرفة الرب جل جلاله، ومن هذه المعرفة سيتعرف الى رسول الله (ص)، ومن رسول الله سيتعرف الى أولياء الله. فعندما يرى العقل في أمير المؤمنين (ع) صورة أخرى لنفس صفات الرسول الأكرم من العلم والشجاعة والعدالة والعبادة.. سيمتد منه الى الإمام علي (ع) ومن ثم الى أبنائه الأئمة الهداة المرضيين (ع).
والمهم في الأمر برمته أن العواطف ينبغي ان تقف خلف التعقل والحكمة والمنطق، لتكون هذه العواطف جنوداً لصاحبها لا أعداء له.
|
|