قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الرسالة الإلهية الخالدة و صراع الفلسفة البشرية من أجل الوجود
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / بشير عباس
في عالم الفكر خطان لا يلتقيان إلا في مواضع يسيرة بسيطة؛ ألا وهما خط الرسالات الالهية، وخط الفلسفة البشرية. ولكل من هذين الخطين تاريخه الممتد عبر الزمن. فمنذ هبوط أبينا آدم عليه السلام على هذا الكوكب، كان يحمل معه رسالة السماء الالهية التي سبقت وجود الحاجة اليها، فمع اول انسان جاءت رسالة السماء، وستبقى وتستمر الى آخر إنسان. وسوف لن تخلو الارض من حجة إلهية يحمل الرسالة الالهية.
التكاملية في النهج السماوي
لسنا بصدد البحث عن تأريخ الرسالات السماوية، وإنما ينبغي لنا ان نشير الى فكرتين تمهد للبحث في مسيرة الفلسفة وخلفية الفكر البشري:
الأولى: وحدة الهدف في الرسالات الالهية
لا ريب ان الخطوط العريضة لرسالات الله تبارك وتعالى واحدة، إذ كلها تدعو الى توحيد الله الخالق الواحد الاحد، والى تسبيحه وتقديسه وبيان أنه تعالى اكبر من ان يوصف بوصف.. وكلها تدعو إلى الخلوص في العبودية له جل وعلا، والى نفي الشركاء عنه ومحاربة الانداد الذين يُعبدون من دونه. وايضا فانها جميعها تدعو الى اصلاح النفس، وبالتالي الى اصلاح المجتمع الانساني. فالمعارف الالهية التي تكاملت على يد النبي الاكرم صلى الله عليه وآله هي ذاتها المعارف التي جاءت بصورتها المجملة مع آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهي ذات المعارف التي جاءت مع نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومع كل النبيين صلوات الله عليهم.
إذن، فإن افلاطون – مثلاً- لا يمكن ان يكون نبياً، إذا كانت تعاليمه الاشراقية مخالفة لتعاليم نبينا صلى الله عليه وآله. بل وحتى زرادشت لايمكن ان يكون نبياً اذا كانت تعاليمه مخالفة لتعاليم عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فان ما ينسب إليه من أفكار صوفية اشراقية ليست بحقيقة، لأنها مخالفة لما نعهده من معارف القرآن الحكيم. إذن، رسالات الله تعالى واحدة، ودعوتها واحدة، وثقافتها واحدة، وخطوط معارفها العريضة واحدة أيضاً لا اختلاف فيها، إلا ما يعرض من التشريعات الجزئية التي تتغير مع الزمن.
الثانية : القرآن أكمل الرسالات الالهية
إن المعارف الالهية التي انبثقت من الرسالات الالهية نجدها في القرآن الكريم. فنحن لو تدبرنا الآيات الكريمة، نقف على ماكان يدعو إليه الانجيل والتوراة والزبور ومئة وثلاثون ونيف من الكتب الالهية التي نزلت على البشر؛ فمن خلال قراءة لسورة هود مثلاً او الشعراء او القصص، بل كل السور القرآنية الكريمة، يبدو واضحاً شمولية القرآن الكريم وهيمنته على كل الرسالات السابقة له، بل ويظهر بكل جلاء انه اكمل الرسالات واجمعها.
ومن خلال نظرة إلى ما كان يدعو إليه الانبياء والى ماهية الرسالات التي جاؤوا بها، والى تأريخ تلك الرسالات، نعرف أنها وحدة واحدة فيما جاءت به من المعارف الالهية، وان خطوطها العريضة واحدة ايضاً. وان القرآن الكريم هو أكملها. أما الفكر البشري فهو الذي يولد ناقصاً فيتم التعامل معه خلال مسيرة تكامله مع العصور والازمان ثم يبدو أخيرا مناقضا لنفسه. ذلك لأنه ينشأ حينا في اليونان وينتقل الى الاسكندرية ومن ثم الى أنطاكية ومنها الى الروم والى سائر بلاد العالم، فتتبدل صوره عبر الحضارات المختلفة كالحضارة الهيلينية والمصرية والفارسية القديمة وغيرها من الحضارات.
قدسية الفكر الاسلامي
لكي نستعرض جانباً من الفلسفة البشرية، لابد لنا ان نبين ان الفكر إذا كان موحى من قبل الله تعالى الى الانسان، فذلك الفكر يكون مقدساً عن التأثر بالظروف، منّزها عن كل شائبة، بعيدا عن تأثيرات الحالات النفسية للانسان وظروفه الثقافية والاقتصادية والسياسية، كطبيعة الانتاج مثلاً او طريقة الحكم او ما اشبه ذلك؛ لان هذا الفكر نزيه بعيد عن الهوى، فهو كعلم نبينا محمد صلى الله عليه وآله الذي يقول عنه ربنا سبحانه وتعالى: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى" (النجم /3-4)، فالجزيرة العربية إبان نزول القرآن بأحوالها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لم تكن لتؤثر في ماهية المعارف القرآنية، بل العكس هو الصحيح إذ الرسالة المحمدية جاءت لتوجيه الانسان نحو التكامل، وذلك لأن القرآن الكريم ليس قرآن الجزيرة. فهو لم ينبت من أرضها ولم يكن وليد مجتمعها، و انما أوحي من قبل الله تعالى الملك القدوس الذي لا تخفى عليه خافية والذي لا يتأثر بالهوى، بينما الفكر البشري ليس كذلك اذ انه عادة ما يكون وليد الظروف.
من هنا نجد الفكر البشري ينبع من واقعه الذي يعيشه، فهو تبع لها يتغيّر بتغيّرها. فالظروف في الحقيقة هي التي تتحكم عادة في فكر الانسان، وبالتالي فهي المبلورة لهذا الفكر، فحيث تتوافر ظروف متشابهة لانسانين مختلفين في مكانين متباعدين مكاناً وزماناً، نتوقع حينها ان تنتج هذه الظروف المتشابهة فكرتين متشابهتين دون أن يكون هناك ادنى لقاء بين هذين الرجلين، لان بينهما قرون متباعدة من الزمان ومسافات شاسعة لا تجتازها القوافل التجارية او الوسائل العلمية. وكذلك لا يبعد أن يكون هناك وقبل آلاف السنين - قبل تسعة آلاف سنة مثلاً - في مصر من كان يفكر بنفس الفكرة التي يفكر بها شخص يعيش في الهند هذا العام؛ إذا ما افترضنا تشابه ظروفهما، دون أن يكون أحدهما قد اقتبس من الآخر.
فالثورة - مثلاً - تولد بسبب ظروف خاصة وعوامل معينة، فحيث يكون هناك ظلم وكان قباله تحدٍّ للظلم، وحيث ما تكون هناك فكرة تستجمع هذا التحدي، وقيادة تركز هذا التحدي وتوجهه فسوف تكون هناك ثورة. ومثل هذا الامر مثل الاختراعات، إذ قد يخترع رجل اختراعاً في مدينة ألمانية وآخر يخترع نفس الاختراع في نفس العام، بل ونفس الشهر ايضاً في مدينة امريكية، فهذا لايعني بأي وجه ان احدهما اقتبس اختراعه من الثاني.
ونحن انما نقول هذا لكي نؤكد على أنه ليس مستبعداً ان تكون هناك افكار قد انتجتها عبقرية اليونان القديمة ثم أنتجتها مرة أخرى عبقرية فيلسوف مسلم عاش في القرن السادس الهجري، لكنا لا نقول بأن اي منهما اقتبس أفكاره من الآخر. نعم المؤرخون للفلسفة وللثقافات عادة يحاولون أن يربطوا بين المفكرين بعضهم مع بعض، فيقولون إن هذا المفكر انما اقتبس أفكاره من ذاك المفكر لمجرد التشابه في الفكرتين او لمجرد ان احدهما سبق الآخر في انتاج هذه الفكرة. ونحن نقول لهم إن انتقال الفكر من جيل الى جيل آخر، ومن بلد إلى بلد آخر أمر ممكن سيما في عصرنا هذا الزاخر بالممهدات والوسائل العلمية المتقدمة لمثل هذا الانتقال ؛ لكن ذلك لا يعني بأي وجه ان كل من فكّر بما فكّر به الآخرون انما يكون قد اقتبس منهم او قلدهم فيه.
لمحة تاريخية
قبل آلاف السنين كان هناك مفكرون في الصين وآخرون في الهند ومصر، غير ان بداية تجمع الفلسفة بل وتحولها الى مدرسة معروفة لدينا انما كان في اليونان - الاغريق القديم - فسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو ومجموعة آخرون من الفلاسفة كانوا في اليونان، وهؤلاء هم الذين استطاعوا ان يبلوروا الفكر الفلسفي القديم وان يكتبوا هذا الفكر وينشروه، وحين أدّت الظروف السياسية والعسكرية الى قيام حروب ومنازعات، و حينما التقت جيوش اليونان في عصر الاسكندر المقدوني بجيوش الفرس، ساعدت الظروف حينها على التقاء الافكار وتبادل الفلاسفة أفكارهم، وكان لقاء الفلسفة الغربية بالفلسفة الشرقية من أمثلة هذه القاعدة.
اما الفترة التي سبقت بزوغ نور الاسلام فقد كان هناك وفي آسيا الوسطى بالذات اربع مدارس فلسفية، بل أربعة مراكز للفلسفة، كان أهمها ما كان في الاسكندرية ومركز آخر في العراق وآخر في ايران - في جندي شابور - ورابع في حوالي سوريا. هذه المدارس لا نعرف مدى تأثر المسلمين بها، لكن الذي ينبغي ان نقف عنده طويلا هو مركز الاسكندرية، إذ هو المركز الأساسي الذي التقى به الفكر الاسلامي بالفكر الغربي، فمنذ القرن الثاني للميلاد مستمرا الى القرن السابع للميلاد - القرن الثاني للهجرة - كانت الاسكندرية مركزاً للفلسفة اليونانية التي تبلورت فيها فكرة سميت فيما بعد بـ (الافلاطونية الجديدة).
الفيلسوف اليوناني أفلاطون، تلميذ سقراط واستاذ أرسطو، ابتدع مدرسة معينة في الفلسفة سميت بمدرسة (الاشراق)، والظاهر إن هذه التسمية جاءت لان افلاطون كان يعتقد بعالم المثل، وباشراق عالم الحقيقة على عالم المثل، وذلك في نظرية له طويلة سنتعرض لذكرها في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى. أما ارسطو تلميذ افلاطون فقد اختلف مع هذه المدرسة، فابتدع بدوره مدرسة أخرى سماها المدرسة (المشائية) او مدرسة (المشائين).
ولأن الاسكندرية بمصر كانت مركزاً مهما لالتقاء الفكر الغربي بالفكر الشرقي ابان حروب الاسكندر، وكانت قبل بزوغ نور الاسلام مركزا مهما من مراكز الفلسفة، ومدرسة من مدارسها، كان طبيعياً ان تظهر في هذه المدرسة افكار جديدة كنتيجة طبيعية للأجواء الفكرية التي سادت هذا المركز الفكري. فقد عاش في الاسكندرية فلاسفة ومفكرون كان منهم (امونيوس سكّاس) - النصف الاول من القرن الثالث للميلاد- الذي تأثر بتعاليم افلاطون وعمل على تطويرها بحيث تنسجم مع المفاهيم الارسطووية والشرقية وبذلك أسس ما أطلق عليه بالافلاطونية الجديدة وكان (فلوطين) من أبرز تلاميذ (امونيوس) وقد عمل على بلورة مذهب استاذه (الافلاطونية الجديدة) وقد عدّه البعض مؤسس هذا المذهب وليس استاذه، وقد تأثر (افلوطين) هذا بالرسالة الالهية التي هبطت على المسيح بن مريم عليهما السلام، ولانه كان فيلسوفا معتقدا بأفكار افلاطون، أراد ان يمزج بين أفكار افلاطون من جهة وبين الرسالة الالهية من جهة ثانية، فكانت نتيجة محاولاته تلك ونتيجة هذا المزج بين ما يعتقد به من الافكار الافلاطونية وما تأثر به من الرسالة الالهية ان خرج بما سمي بعدئذ بالاقانيم الثلاثة فقال: إن الله ليس واحداً وإنما هو ثالث ثلاثة! الله أي الاب والابن و روح القدس الفاصل بين الاب وبين الابن.
المصالح وراء خلط الدين بالفلسفة
الذي يجدر بالذكر ان الاحبار - علماء المسيحية - خالفوا في البدء هذه الفكرة المستحدثة؛ معترضين بأن ذلك تحريف وزيادة في الدين. غير ان تغيّر الظروف الاجتماعية والسياسية دفع المسيحيين واضطرهم الى مبايعة امبراطور الروم خوفاً من اضطهاد اليهود لهم، وطمعاً في استدراج امبراطور روما لدينهم، فراحوا يخضعون للفلسفة الافلاطونية الجديدة. فكان ذلك سببا لدخول الشرك والافكار الغنوصية والحلولية في الديانة المسيحية، وكانت الاسكندرية على يد (امونيوس) وعلى يد تلميذه (افلوطين) بابا ولجت منه الافلاطونية الجديدة في الديانة المسيحية.
قبول الاحبار والرهبان للافلاطونية الجديدة انما كان بسبب رغبتهم الملحة وحرصهم الشديد على جلب الناس للدين. هذه الرغبة وذلك الحرص استدعى ان يلجأ هؤلاء الرهبان والاحبار الى التخفيف في أحكام الدين وتسهيل تشريعاته، وبالتالي خلط الرسالة الالهية بالفلسفة البشرية وبالشكل الذي يتمشى واهواء الناس. فراحوا يغيرون معالم الديانة الاساسية، وكان ذلك بالنتيجة سبباً في استحداث أنواع جديدة من الديانات الممسوخة البعيدة عن الرسالة الالهية كل البعد.
والدين الاسلامي الحنيف لم يكن أيضاً في مأمن من عبث العابثين ولا في منئا عن أهواء النفس البشرية. فمنذ ان دخل الاسلام الهند مثلا واعتنق الناس الاسلام الحنيف راحت تيارات التغيير واساليب التبديل تلعب دورها في حرف هذه الرسالة السماوية، فظهرت الديانة السيخية التي هي في الواقع تحريف للاسلام، بل وظهرت الديانة القاديانية على يد القادياني، كما استحدثت الديانة البهائية على يد محمد علي بهاء. وليس هذا فحسب، بل وكل المذاهب المنحرفة التي انبثقت من الديانات الالهية المستقيمة انما كانت بسبب اختلاط الافكار البشرية بهدى الله سبحانه وتعالى وبالرسالات السماوية ؛ هذا الاختلاط الذي سبّب انواعاً جديدة مستحدثة من المذاهب والديانات البعيدة عن الرسالات السماوية السمحاء كل البعد.
ولابد أن نشير هنا الى أن عدداً ليس بقليل من علماء المسلمين سلكوا طريق الانحراف هذا وابتلوا بهذا الداء، كل ذلك من أجل ان يجمعوا حولهم انصاراً واعواناً. فراحوا يغيّرون الدين ويحرّفون الكلم عن مواضعه ويخففون من أحكام الدين وواجباته ويهوّنون على المكلف واجباته ويسهلون تشريعاته ترغيباً بالدين وجذباً إليه، ولكنهم بفعلهم هذا لا يبعدون الناس عن الدين فحسب بل ويعملون شاؤوا أم أبوا على تضعيف روح الايمان الصادق لدى النفوس المؤمنة.