السبيل نحو المعرفة الربانية - 3
التاريخ بوابة المستقبل
|
*السيد صادق الحسيني
يعتبر علم التاريخ مصدر مهم من مصادر المعرفة البشرية ذلك لأنه المدرسة الحضارية التي تراكمت فيها تجارب البشر، لذلك أمرنا القرآن الحكيم بـأن نهتم بهذا العلم وذلك من خلال السير في الارض و النظر في سيرة الاولين قال تعالى: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِي الاَرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (غافر /82) .
بيد أنّ التاريخ فيه من الزوائد الذي يشبه الزبد الذي يذهب جفاءً ولا فائدة من معرفته و فيه ما ينفع الناس ليستفيدوا منه للمستقبل حيث أنّ سنن الرب في الاخرين هي سننه في الاولين؛ فالأرض هي الأرض والشمس والقمر والجبال... وغيرها هي ذاتها منذ نشأة آدم وحتى اليوم، ونحن البشر لم نتغير، فهي هي غرائزنا وعقولنا وتطلعاتنا وحاجاتنا... ربمّا اختلفت المناهج، ولكن الأهداف لم تتغير، وأي انسان يستوعب دروس التاريخ يعرف كيف يتجاوز العقبات وكيف يسلك درب التسامي.
اذن، المهم من دراسة التاريخ هو الاستفادة منه للمستقبل ولذلك نجد القرآن الكريم لم يحدثنا كثيراً عن تفاصيل الحضارات السابقة و تقدمها، إنما يسلّط الضوء على عاقبتهم، و بعد نظرة عقلائية الى تاريخ الغابرين نفهم ان عاقبة المجرمين منهم كانت الدمار، بينما المتقون كانت عاقبتهم الحسنى ، وان اللـه لم يدمر على الكفار قراهم ، الا بعد ان انذرهم .
و في هذه النقطة تحديداً يكون الفرق بين ما يدعو له القرآن الكريم من النظر في سنن الاولين و بين ما اصطلح عليه اليوم بعلم الآثار، حيث أنّ علماء الآثار اليوم يستقصون جهودهم ليجدوا آثار الاقوام الغابرة دون أن يفكروا قليلاً عن سبب فناءهم بينما القرآن الكريم يدعونا الى النظر في آثار الغابرين للاعتبار بها و الاستفادة منها للمستقبل، وهذا ما ذهبت الآية الكريمة التي صدرنا بها المقال.
فقوة هؤلاء الاقوام قد فاقت قوة من خاطبهم ، إلا ان هذه القوة و تلك الآثار لم تكن قائمة على اساس صالح ينميها و يحافظ على كيانها، انما كانت تزيدهم غرورا، و الاعمار يزيدهم كفراً و فساداً، مما دعاهم للإسراف في المعصية اعتماداً عليها، و اذا اردنا تطبيق التاريخ على واقعنا اليوم نعرف أنّ أية حضارة لم تبنَ على اساس سليم و خالفت نظام التوحيد و السنن التي اجراها الله في الكون فهي لاشك و أنّها ستنهار عاجلاً ام آجلاً، من هنا فالحضارة الغربية مهما تقدمت مادياً اقتربت من نهايتها لأنها حضارة في بيت العنكبوت و إنمّا بنيت على اسس هشّة و هذا مثال عملي نستفيد من الماضي لنعرف المستقبل، قال اللـه تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ" (الروم /42).
وهنا نذكر باجمال البصائر الاساسية التي نستوحيها من النظر في سنن الاولين الذين هلكوا بسبب انحرافهم :
اولاً : مدى قوة الامم وهي إما قوة ابدانهم أو عموم اسباب القوة التي اجتمعت عندهم بحيث استطاعوا إعمار الارض .
ثانياً : اثاروا الارض فعمروها بالزراعة والبناء.
ثالثاً: انهم كانوا مذنبين ، إمّا بتكذيبهم للرسل او بتماديهم في الاجرام و ايضاً استهزائهم بالرسل .
رابعاً : ان قوتهم الظاهرة التي زعموا انها تمنعهم من عاقبة ذنوبهم، لم تحفظهم من امر اللـه لما جاءهم.
خامساً: ان عقبى كل كافر ذات المصير، قال تعالى: " أَفَلَمْ يِسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللـه عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا" (محمد /10) .
فالغاية من السير في الارض والنظر في عاقبة السابقين والدمار الذي أصابهــم، معرفة هذه الحقيقة ؛ ان كل كافر تكون عاقبته ذات الدمار الذي حلّ بالأولين، وهو ما يجدر بنا أن نتأمل به و نعتبر منه وقد قال أمير المؤمنين (ع): (كل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو).
وقد تكررت في آيات مباركة كلمة (السير)، و ذلك لأن النظر العلمي قد يقتضي حركة من الانسان كالسير في الارض للنظر في مصير الغابرين ومعرفة اسباب دمارهم مما يحتاج - عادة - الى التنقيب في اثار الماضين ومعرفة عاداتهم وعوامل انقراضهم، و هو ما يدل على اهتمام القرآن بالمعرفة لأنها اساس التقدم عند البشر، فطوبى لمن كانت مدرسته الارض وما فيها من آثار الغابرين ، فوعى تجاربهم ولم يكرر اخطاءهم.
|
|