كرّم الله الإنسان فجعله مسؤولاً عن اعماله
|
*عادل عباس
أنّا اتجهت نظراتنا ضمن رحاب هذا الكون العظيم تأكّد لنا أنّ العدالة الإلهية قائمة ومستمرة ومستقرة، وهي إلى الأزل تبقى كذلك. فهذه الملايين من الكواكب والمنظومات والمجرات الكونية لا ولن تشذّ حركتها الدائمة عن نطاق مفهوم الآية القرآنية القائلة "وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (يس /40). فالمميزات الهائلة التي أضفاها الله سبحانه وتعالى على هذه المليارات من النجوم لا تحدو بها إلى الخروج على الموازنة الربانية العظيمة.
وإذا ما تحولنا بنظرنا إلى عالمنا الأرضي الواسع لرأينا العجب العجاب جرّاء الكمّ الهائل من المخلوقات البسيطة التكوين منها والمعقدة، من جهة، وجراء عظمة القانون الحاكم لهذه الكائنات من جهة اخرى. حسب بعض التقديرات العلمية هناك ثلاثون مليون نوع من الأحياء، ولا يمثل الجنس البشري إلاّ نوعاً واحداً منها. ولكل حيٍّ من الأحياء ولكل متحرك من المتحركات ثَمّتَ طريقة حقّة في ديمومته في الحياة. ولعل من المناسب بمكان القول بأن علماء الطبيعة ورغم القفزات الكبيرة التي حققوها على صعيد الكشوفات العلمية لا يزالون حائرين أمام القوانين الحاكمة والمتسلّطة على العديد من الكائنات الحيّة فضلاً عن الأصغر حجماً فيها.
إن مجرد الكشف عن حقيقة من حقائق الكون والطبيعة، وفي مقدمتها حقيقة وجود العدالة الإلهية المسيّرة لهذه الطبيعة من الجدير به أن يحدو بنا ويحثنا على ترسيخ إيماننا بأن ثَمَّ قوة مطلقة تقف وراء هذا الوجود تبعث فيه الحياة والنظام على حدّ سواء. وليس الإنسان بمستثنى عن هذه القاعدة، بل لعله الكائن الأوّل، المعني بهذه الحكمة المتعالية، ومن أجله كان كل هذا الخلْق.
البشر في ميزان العدالة
إن حكمة البارئ جلّ وعلا اقتضت أن يكون للإنسان تكويناً داخلياً كريماً فذّاً، حيث قال ربّنا سبحانه: "لَقَد خَلَقْنا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقوِيمٍ" (التين /4)، وقال: "وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ" (الإسراء /70). فأعضاء بدن الإنسان تعمل ضمن نظام ميكانيكي وكل واحدٍ من هذه الأعضاء يقوم بوظيفته المرسومة له، ولك أن تطالع وتدرس مدى العظمة الكامنة في تكوين كل جزء من أجزاء البدن البشري من الكتب المعنية بذلك. أمّا علاقة البشر بعضهم ببعض، فقد رسم الله سبحانه وتعالى خارطة متكاملة تقوم أوّلَ ما تقوم على أساس العدل والقسط، "لكيلا يُظلمون فتيلاً"، وفي طليعة آيات هذا العدل أن أرسل رسلاً بشراً ليوضحوا معالم وتفاصيل ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان به سبحانه وتعالى ثم ببني جلدته من باقي الناس. فيما منح الله هذا الإنسانَ الحرية والعقل ليقوم بتطبيق ما جاء به الرسل. وإذاً، فإن من أولى أمارات التكريم الرباني لبني البشر على سائر المخلوقات أن جعله مسؤولاً عن تقرير مصيره بذاته.
وكان بمقدرة القوة المطلقة أن تجري العدالة والنظم القويمة بذاتها، وأن يجعل الناس أُمة واحدة، أو أن يرسل ملائكة تتفاوت طبيعتهم عن طبيعة البشر، غير أن الكرامة التي اختُص بها بنو آدم سوف لن تكون لها أية مصداقية، أو أنّ الحكمة في قانون الثواب والعقاب والرحمة والغضب ستأخذ منحىً آخر غير المقرر من قبله تعالى في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة والكتب السماوية الأخرى. يقول ربُّنا تبارك وتعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنا بِالبَيِّنَات" (الحديد / 25). فالرسل جاءت محمّلةً بالأفكار الواضحة والتوجيهات الإلهيّة الجليّة دون لبَس أو غموض، إنها حقائق تخاطب عقول وفطرة بني البشر. ثم يقول تعالى : "وَأَنْزَلْنا مَعَهُم الكِتَاب" (الحديد /25) أي القانون، وكان من إعجاز هذا الكتاب أنْ لم يدع فرصةً للناس للتبرير والتملّص من تطبيقه في أرض الواقع، حتى قال الإمام علي عليه السّلام في صفة القرآن: (فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم).
وعلى ذلك فقد صار الناس مطالبين بالرجوع إلى القرآن الكريم وتحكيمه لدى ظهور أدنى بوادر اختلافٍ ما ليجدوا فيه الجواب الحاسم الواضح والحكم الفصل. فبدءاً من الاختلاف ضمن نطاق الأُسرة الواحدة إلى الصراع الاجتماعي إلى الصراع الدولي ثمّ حلول ناجحة من شأنها القضاء على أية بادرة من بوادر التناقض. ولعلّ وظيفتنا الأُولى تجاه كتاب ربّنا هي التدبّر في آياته واستخراج المعاني والتفاصيل القيّمة الكامنة بين دفّتيه.
فبالنسبة إلى قانون الأُسرة يصرح لنا الكتاب السماوي العظيم بالقول: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ" (البقرة /228) إنّه يتحدث عن تقسيم الحقوق والأعمال والواجبات ضمن موازين العدالة الشرعية التي يحدد معالمها وتفاصيلها العرف الاجتماعي النزيه الذي يتكوّن بدوره من مجموعة عقول الناس التي تدرك بإحساسها الفطريّ الحسنَ والقبح.
الميزان... تطبيق العدالة
هذا هو الكتاب قد فهمنا عنه نزراً يسيراً، أما (الميزان) الذي تشير إليه الآية الكريمة، فهو الطرف المعني بتطبيق مفاهيم وأحكام الكتاب، وهو رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن بعده الأئمة المعصومين عليهم السّلام، ومن ثم يأتي العلماء الذين يحملون هذا الكتاب، وبعدهم يأتي دور العقل؛ العقل الذي بمقدوره استيعاب هذه المفاهيم الربانية: "وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (الحديد /25). فالهدف الأسمى من بعث الرسول والكتاب هو ألاّ يسلب الناس بعضهم بعضاً حقوقهم، وأن لا يعتدي الإنسان على أخيه الإنسان.. والقسط يعني أول ما يعني النصيب والحق.
وإذا كان الله تعالى قد وضع قانون الثواب، فقد وضع إلى جانبه قانون العقاب الذي تعبّر عنه الآية بـ "وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" (الحديد /25). إذ أن الطبيعة البشرية ومجموعة الغرائز التي خلقت مع الإنسان من شأنها أن تكون في حالة صراع ذاتي دائم لا تنتهي إلاّ بموته؛ فهناك قانون مجازاة السارق والقاتل والزاني والمعتدي والمفسد في الأرض وغيره من القوانين المنـزلة في صفحات القرآن الكريم، لتكون بمنزلة الرادع دون تخطّي المرء لحدوده. إن هذه الروادع وهذه العقوبات من شأنها أن تحفظ لباقي أفراد المجتمع أمنهم واستقرارهم وحياتهم الطبيعية التي كُلّفوا بمزاولتها، فاليد السارقة تقطع إذا امتدت على دينار واحد – مثلاً - ، وتقطع أيضاً لو امتدت على ملايين الدنانير، والسبب في ذلك رغم هذا التفاوت الظاهر في كمية المال المسروق، هو ذلّ الخيانة الذي استحوذ على تصرف السارق، الأمر الذي ترفضه العدالة الإلهيّة رفضاً قاطعاً. إن الميزان يكفل للناس حياةً طيبة، والحديد يتكفّل بالتصدي لمن يخرج على إرادة هؤلاء الناس ذاتهم.
الطليعة المجاهدة
يبقى أن القرآن المجيد قد حدّد أيضاً من يقوم بحمل هذا الحديد – القوي – الذي يعيد ما سُلب من أمن واستقرار من الحياة. إنهم المجاهدون، "وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" (الحديد / 25). فالمجتمع بحاجة ماسّة للغاية أن تكون هناك فئة ونخبة تحمل همَّ قيم الله والرسل والأئمة والسنن الكونية المرسومة.
ومن المؤكد أنه كان باستطاعة الله القوي العزيز أن يقوم بتنفيذ مبادئ العدالة بنفسه أو بمخلوقات غير بشرية من قبيل الملائكة ذات القدرات الخارقة، غير أن الله القوي العزيز أراد للحياة أن تأخذ مجراها الطبيعي، وأن تتحقق الأمور بأسبابها المنطقية، إن الله وضع الحديد في هذه الأرض وأراد أن يرى من يحملها لينصره. لذا من الطبيعي والمنطقي أن تتعرض أية أُمّة إلى الاستغلال والمهانة والاحتلال والزوال في حال خلت من رجال طليعيين يقيمون ما اعوجّ من أمرها.
|
|