قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الغموض في الشعر.. بين القديم والجديد
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *حيدر ناصر
تقول (سوزان بيرنار) في كتابها قصيدة النثر: (مما لاشك فيه انه يوجد في قصيدة النثر في آن واحد قوة فوضوية مدمرة تميل الى رفض الاشكال الموجودة)!
نود أن نوضح قبل الشروع في الموضوع إننا لن نخوض في موضوع الصراع الطويل بين تياري القديم والجديد أو الكلاسيكي والحداثة كما يسميها النقاد، فهو موضوع امتد على طول مساحة الشعر وتبارى انصار كلا الاتجاهين في ترجيح كفة تياره وما زالوا يخوضون في بحر متلاطم الامواج مضبب السواحل
وما نريده هنا هو ما تواجهه الحركة الشعرية الجديدة من تساؤلات حول ظاهرة بارزة اصبحت سمة ملازمة لقصيدة النثر وهي (الغموض) ولماذا اصبحت هذه السمة عادة يتبعها شعراء النثر؟ وما السبب في ذلك؟ وما علاقتها باللغة والحداثة والثقافة؟ وهل هي إحدى مصادر القوة الفوضوية المدمرة التي وصفتها (بيرنار)؟
مما لاشك فيه ان اللغة الشعرية يجب ان تحتوي على نسبة من الغموض او الرمزية لكي تتميز عن لغة النثر وحتى تكون الاستجابة من قبل القارئ اكثر إثارة وتشويقاً وهو غموض نسبي ايجابي وصفه عبد القاهر الجرجاني بأن: (موقعه من النفس أجلّ وألطف وكانت به أضن واشغف)، فهذا الغموض هو الذي يكتشف عن الفكرة من خلال المعاني اكثر رسوخا في النفس وقد اشار الجرجاني الى هذه المعاني بقوله: 0فأنك تعلم على كل حال ان هذا الضرب من المعاني كاللؤلؤ في الصدف لايبرز لك إلاّ ان تكشفه عنه وكالعزيز المحتجب لايريك وجهه حتى تستأذن عليه. ثم ما كل فكر يهتدي الى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول اليه).
وهذا الوعي الدقيق لعميلة الابداع الفني هو الاساس الذي ينطلق منه كل متحدث حول مفهوم الغموض في الشعر وملازمته للابداع الاصيل. ولكننا نجد هذا الموقف الجمالي مختلفا تماما في الشعر الحديث حيث نُسف هذا المفهوم للغموض ليتحول الى قوة فوضوية وطاقة عشوائية توغلت في الحركة الشعرية وهيمنت على مفاهيمه وخصائصه. فهذه القوة او الطاقة انحرفت عن المسار التجديدي الطبيعي للشعر والنسق المتبع للتجديد في الشعر عبر العصور فهو نسق واضح المعالم محدد القسمات ولم يكن الشاعر يتجاوزه إلا نادراً جداً وليس بهذه الفوضوية ولم يصل الى هذا التوتر المفتعل والغموض المصطنع.
ان كثيراً من الشعراء الجدد يبررون هذا الغموض بأنه مناسب للعصر على ضوء التطور التقني والتكنولوجي وبعد ان تجمد الشكل الكلاسيكي لقرون عديدة وتقوقع في إطار البحور الخليلية واستحال الشعراء نظّامين فقط، ولا يمكن لأمة ان تنتظر قرونا عدة لكي يظهر فيها شاعرٌ مجددٌ على الطريقة القديمة كالمتنبي والجواهري لكي يبعث روحاً جديدة في الشعر، فكان من الضروري ايجاد شكل آخر له اكثر مرونة وحيوية فعمدوا الى قصيدة النثر ولو رجعنا الى جذور قصيدة النثر نجد أن نشأتها تختلف تماماً عما يكتب الآن، فقد انصب جهد الشعر الفرنسي في القرن الثامن عشر ولظروف سياسية واجتماعية على كسر القواعد الكلاسيكية للشعر فظهرت الحركة الرومانتيكية والتي كان من اقطابها بودلير ولوتر يامون ورامبو، وقد بنيت هذه الحركة على انقاض شعر (الحانات) الحقيرة المنحطة والشعر العامي المحدد والذاتي الذي كان طاغياً في ذلك الوقت، ويستطيع القارئ ان يتبين مدى التناقض العميق والاختلاف بالمواقف الفكرية بين كتابة قصيدة النثر الفرنسية وقصيدة النثر العربية التي قامت على تحطيم الاسس الجمالية للشعر ومحو الارث الشعري العربي. وقد عجز شعراؤها عن مسايرة التجديد من خلالها لقصور ثقافتهم وضعف أدواتهم الفنية، فقصيدة النثر الاجنبية حطمت الاطار الكلاسيكي الذي اصبح متهرّئاً لتحيله الى قوة منظمة وبناء وحدة شاعرية تعبر عن هدف معين استدعى الظرف ان يكون طابعه بهذا الشكل ولكن هذا لايسوغ للشعراء العرب الجدد ما يقومون به من عبث تحت وطأة نزعاتهم الحداثوية، و هو لايبرر الغموض الذي يفتعلونه في القصيدة لخلق حالة من الانبهار المفترض لدى القارئ، فهذا الغموض المتعمد قد خرج عن سيطرة العقل والمنطق الى عوالم مبهمة غير مفهومة حتى في ذهن الشاعر نفسه. وقد ساعدت عدة عوامل على انتشار هذا النوع من الكتابة، فالتخلف الثقافي للمتلقي كان وازعا لهؤلاء (الشعراء) في ان ينهمكوا في هذا الهذيان بالقاء الذنب على المتلقي ولعل بعضهم يذكر عبارة (ابي تمام) المشهورة عندما سئل: لماذا لاتقول مايفهم؟ فاجاب: لماذا لاتفهمون مايقال؟. ولكن هذه الاجابة لاتنطبق تماماً على هؤلاء الشعراء فهي تحمل في طياتها فحوى ان المبدع مدرك تماماً لما يقوله لكن المتلقي هو الذي لايحاول تجاوز ذاكرته الشعرية فهو يطلب سماع ما اعتاد على سماعه في حياته اليومية، واذا أردنا ان نضع مقولة ابي تمام في اطارها الصحيح فهو ان معظم شعر ابي تمام مفهوم لدى المتلقين في عصره ثم ان قضية فهم شعره او شعر المتنبي وغيرهما لم تشكل ظاهرة متأزمة كالتي نعاني منها الآن ذلك ان الغموض كان جزئياً وفي ابيات قليلة وكانت محل اثارة وكان الشاعر يجابه في تجاوزه النادر هذا بهجوم عنيف من قبل النقاد.
ومما يزيد من اتساع الهوة بين الشاعر والمتلقي هو الحركة النقدية الجديدة التي بدلاً من ان تردم هذه الهوة اوتضع جسراً للالتقاء، زادت الغموض، غموضا بالنقد الغامض الذي اعتمد على مصطلحات غربية بحتة لاتمت الى واقعنا بصلة، بل ويحفزون الشعراء عليها وقد وردت عبارة لاحد النقاد يمدح فيها احد الشعراء بشعره الذي تحدى به النقاد نصها: (فهذا النوع من الشعر الجدير، وحده يلقب الشعر، وهو الشعر الكشف، الشعر الرؤيا، الشعر الاضاءة، وهو الشعر الذي ينطوي على شفرة شعرية خاصة ومتميزة تطرح على الناقد تحدياً اساسيا هو تحدي فك رموز هذه الشفرة الشعرية المعقدة)!!!
واذا كان هذا الشعر (العظيم) الذي نال من التعظيم ما لم ينله شعر المتنبي قد تحدى نقاده وأعياهم فك (رموزه واسراره)، فكيف بالقارئ المسكين الذي لايملك سوى ان ينحني امام هذه (العظمة) التي لايعرف معناها!!!
وفضلاً عن هذا العامل فهناك عوامل اخرى منها اعتماد الشاعر على الرمزية العميقة خوفا من وقوعه بالتخبط في التعبير عن موقفه تجاه الواقع وكذلك تذبذب الشاعر وحيرته في تحديد موقفه ولجوئه الى خلق عالم مستقل مغاير لما هو خارجي يصطدم مع وعي المتلقي ويبقى العامل الاكبر لهذا الغموض هو التقليد الفج للنتاج الاجنبي وهو من اكثر العوامل سلبية نتيجة لاختلاف البيئة والتقاليد وقد تاه اصحاب الغموض انفسهم في هذا الغموض باللهاث خلف القصيدة الاجنبية فالحداثة لاتأتي من خلال ذلك بل من خلال استيعاب الماضي والحاضر والاطلاع على شتى الثقافات والتزاوج بينها مع رعاية الحفاظ على الادب الملتزم.