قصـــة قصيـــرة
|
سكان خارج الخريطة
*عدنان عباس سلطان
على بقعة خريطة مدينة من مدن الوطن ، كان قد شغلها أناس من عباد الله ، بعد ان داروا بحثاً عن الرغيف في انحاء مختلفة من البلاد ، كل على طريقته الخاصة . لكنهم في فترة اخذوا يتواردون زرافات و وحداناً على تلك البقعة ربما بالمصادفة. وهم رغم ذلك لم يفقدوا طبائعهم التي نشأوا عليها جيلا بعد جيل.
اهتم بهم محافظ المدينة ، وشاور مساعديه الذين دفعوا باهتمامه الى درجة أعلى . ذلك بانهم اخبروه بان الاعداد في تزايد مطّرد ، وان القضية (دسمة) فقد توصله الى درجة في سلّم السلطة ، فالدماء الغزيرة قد تصبغ وجه الحرب القائمة، مما جعله يأمر الحرس الخاص ان يهيئ لجولة تفقدية مع نائبه الشاب، للاطلاع على احوال الحي الجديد الذي لم يسمّ بعد ، رغم مرور سنوات على اكتظاظه بالحيوات البشرية .
قال المحافظ وعينه باتجاه الطريق:
ـ اظن بان الامر قد يكون ملفتا للقيادة هناك ألا ترى ذلك أيها السيد؟
قال النائب وهو ايضا يتجه بنظراته باتجاه الطريق لكنه مال قليلا وراء سمع المحافظ:
ـ بل ان الملفت هو شخصك سيادة المحافظ، ان الامر قد يكون مفاجأة سعيدة!
قال المحافظ وعلى شفتيه ظِل ابتسامة:
ـ أترى ذلك حقا ؟!
قال النائب وهو يميل بجسده وراء المحافظ:
ـ بل ارى ان هناك انتقالاً بالمنصب الى درجة اعلى .. ربما ستكون هناك .. وقد ترقى الى الوزارة .
تزحزح النائب الى وسط المقعد الخلفي لكي يقلل من الزاوية التي مال بها المحافظ لتلتقي نظراتهم . قال المحافظ مضيفا للتجاعيد ابتسامة حققت لها مكانا اجباريا:
ـ لست وحدي بل انت ايضا قد تشغل منصبي كما اظن سيادة النائب .
عادت التجاعيد الى وضعها المستريح بعودة جسد المحافظ الى وضعه الاول .
من النافذة اخذ ينظر باهتمام الى الازدحام الذي تسببه عربات الحمير والبضائع المكدسة
المندلقة على الطريق وبائعي الفلافل والخضروات والجوالين وعابري السبيل من نساء ورجال.
ـ اذن هذا سوقهم.
قال المحافظ ذلك وامر السائق بان ياخذ جولة في حيهم السكني الذي يلي السوق مباشرة .
كانت خرائب وملاذات ومربعات من الصفيح ومزابل ومسقفات من جذوع النخيل ثم حفر هائلة وكلاب باعداد كبيرة كانت تعترض طريق سيارة السيدين بشراسة.
قال المحافظ :
غدا اجتماعنا الموسع مع الشرطة والدفاع المدني .
قال النائب باهتمام كأنه وجد شيئا خطيرا :
ـ الا تلقي كلمة بينهم مثلا ؟!
قال المحافظ ستكون كلمات كثيرة في قابل الايام .
فمن هم هؤلاء الذين خططت لهم السلطات ان تكون دماؤهم على جدار الحرب؟
انهم منذ سنين الحرب، يسيرون على الحبال الحرجة، يتنكبون الانتباه ، ويحتذون الخطر ، فطرقهم لايسلكونها مرتين ، ليس لهم شان بالرأي القائل ـ ان المستقيم هو اقصر الطرق ـ ذلك ان المستقيم يؤدي الى نفيهم الى ارض شبه محروقة، تضمر فيها تطلعاتهم تحت ايقاع (يس.. يم .. يس.. يم...)!
الحذر والحيطة وانذار من الدرجة القصوى ، قد يرتدونها كملابس غير مرئية . لكن ذلك لايمنع عن احدهم ان كان متكاسلا عن ارتداء الملابس غير المرئية ، ان يتعرض للاصطياد ويغيب في ليلة حالكة وتندثر اخباره . غير ان السائل عنه لايبلغ حقيقة الامر ، ربما يسمع كلمتين مقتضبتين انهم (أخذوه) وهذا تخط للروتين والمراسم التي يتطلبها ملف الموت الطبيعي، وحصل على طريقة مختزلة لمفارقة الحياة بلا أسف او دموع . هذا ان لم يكن المتحدث عن مصيره قد اجاب نفياً ليبرئ ساحة ـ انهم ـ وان المومأ اليه قد سافر طوعا ، تحت تأثير غموضه الشخصي ولاسباب اخرى غامضة ايضا، ومن المحتمل ان يعود في زمن غامض مستصحبا على جسده خطوطا غامضة . لايفك رموزها غير منكر ونكير.
اغلق المحافظ التلفون، وعاد يتمتع بشعور الزهو ، متأملا اسماء الشباب والشيوخ والنساء في القوائم التي اعدت من قبل (انهم) وصارت جاهزة لملئها على السيدين المختصين في قيادة الامن وقيادة الشرطة .
الاتصال الذي اجراه السيد المحافظ لحظتئذ ، كان مع القيادة ، والجواب كما يتأمل السيد سيكون سريعا ،. خلال ذلك سيصل اسمه هناك ، الى الرأس الكبير، سيقرأ اخلاصه وذكاءه وصورته ، ثم يفكر بالمقام الذي يستحقه عن جدارة.
قام من الكرسي الدوار واخذ يخطو في غرفته المهيبة مثل اسد ضايقه قفص الأسر .
عاد ليتصل بالنائب ليشعره بالمشاركة ، ويغير الانطباع القديم لديه ، انه ليس متضايقا من ان النائب يطمع بمنصب المحافظ ، الاثنين كانا يتبادلان شعورا مضمرا بنوع من الكراهية ، لكنه الآن تغير كل شيء تقريبا ، فالمسألة مسألة وقت لا اكثر فــ :
ـ لتذهب المحافظة وأهلها ومن يتولاها ايضا الى الجحيم.
هكذا تمتم قبل ان يتحدث للسيد النائب:
ـ لقد جرى الاتصال ونحن الآن بانتظار الجواب .. الامر سيعلن عن مفاجآت مبشّرة .. عليك اكمال المهمة ، كأن الموافقة قد صدرت فعلا، أجر اللازم رجاءً .
وهكذا تدور الامور في مربع السلطة المحلية، فيما يقضي اهل الحي المجهول الإسم جلّ ايامهم بشد الحبال ورزم الاغراض او فتحها واقامة الحصران ليتعوذوا بها من الرياح والمطر ثم طيها صباحا او مساءً استعدادا لرحيل مرتقب .
هكذا هي حياتهم المؤقتة خلال تاريخهم الطويل الذي عاشوه في زمن الحرب او قبله ، فالواقف على خارطة مساكنهم يسمع هذه النداءات:
صفية فكي الحبال... حمدان افتح الكارتونة... تومان ارزم الحوائج... كوفي هات الوجبة من الوكيل... علاوي إملأ الجولة بالنفط... سلمان تابع العقارب... مزبان انجز حفرة الاختباء...
ومع ان المحافظ ونائبه كانا يتأملان عما تسفر عنه حركتهم المتاخرة جدا، والتي قاموا بها في اذيال الحقبة الاكثر قساوة ، الا انهم بعد يومين صدموا صدمة مروعة ، اذ ان الطائرات المغيرة قد نسفت الاحلام كلها ، ودخلت القوات وهدمت مراكز السلطة هناك واحترق الجبل الجاثم كما احترقت اوراق الدماء بشكل جماعي لاهل الحي. وعلى اثر تلك الكارثة هرب السيد المحافظ ونائبه مرتدين ملابس مدنية واختفوا كما يختفي الملح في ماء حار. واهل الحي الذين اكلت منهم الحرب وشفلات البلدية الشيء الكثير ظلوا على حالهم ، و وجدوا وضعهم امام اسلوب آخر، تلاءموا معه دون تردد . عندما عصف الحادث الجلل ، واختفت معه نقاط التفتيش ولم يعد من احد يمارس الصيد البشري .
قنابل الاخبار تتفجر في المقاهي ويشم بارودها اطفال ونساء الحي ويتولاهم السرور وهي قنابل سرور تنبئ عن الآتي على السفن الراسية ، والقوافل المحملة بتفاح لبنان وبلح الشام وتوابل الهند ومصوغات السند وما انتجته معامل الغرب من رفاهية منقطعة النظير. وامام تلك القنابل الاخبارية تخلصوا من اغراضهم واثاثهم المتواضع بيعا وتحطيما، وتطرف بعضهم في الاجراءات المتخذة لفسح المجال امام كل ما هو جديد اذ طردوا زوجاتهم، ولم يتركوا ما يذكرهم بزمن العوز. كانت هذه الاجراءات التي اتخذوها فورا هي التي اضحكت الشمس ضحكتها التي سارعت بتغطيتها بازار الافق الثقيل .
قال محافظ العهد الجديد لنائبه وهو يدخن سيجارته:
ـ الحقيقة ايها السيد وانت خير العارفين ان المدن يجب ان تكون لها خريطة محترمة من قبل ساكنيها، فالمدينة مدينة، والريف ريف وليست نهبا لكل من هب ودب ليشكلوا احراجا للخدمات.
قال النائب وهو يضع جواله على المنضدة التي امامه :
ـ الذي تقوله صحيح لكن الامر مرتبط بالانتخابات المحلية والطارئون او المتجاوزون انما ندخرهم اصواتا نحن بحاجتها:
نظر المحافظ بشئ من الحدة استطاع ان يلويها قليلا:
ـ اتراني نسيت هذا ايها السيد ، لكني اتكلم عن فترة ما بعد الانتخابات، فكل طير يعود الى ارضه في نهاية المطاف ، والا لماذا في البلدية كل تلك الشفلات؟.
تبسم النائب ليبدي شيئا من المداراة مخففا مشاعر المحافظ الحانقة عليه لسبب يعرفه:
الواقع سيادة المحافظ انا ادرك بان الامر محسوب من قبلكم لكنني وددت ان اشير بما اعرف، وان اللعبة يجب ان تلعب بصورتها الاصولية .
قال المحافظ وهو يكف عن نفث آخر وجبات دخان سيجارته:
على كل حال سندعو حلاق البلدية ان يحلق رأس المدينة بشكل دائري ليخلصها من دائها العضال ونوفر خدمات مضاعفة لسكانها الاساس!
اتلفت الراديوات الصغيرة الصينية الصنع، آذان بعض المتحمسين من اهل الحي، حتى تقيأت بطارياتها الحوامض الكيمياوية ، وبدأوا يذهبون فرادى الى المخازن ليتاكدوا من الاربعين حاجة ، لكنهم في كل مرة يعودون دون ان ترسو قوارب تساؤلاتهم على جواب شاف، واخذ الشك ينمو ثم يتسلق جدران الامل ويعرش فوق زمن العطلة الاجبارية التي اوقفت كل حركة حتى تاكدوا بان المأمول ـ اخذوه ـ أسوة بـ (أنهم أخذوه) فعادوا يقضمون الخبز الداكن ثم استمرت نساؤهم المتبقيات على ابواب الانسانيات التعبانة حيث مازال يديرها الاجلاء من ابناء الوطن ، ثم انهن يعدن بعبوات المياه البلاستيكية حيث تكال بالاستكان على افراد الاسرة ، توخيا للعدالة وتقمصاً لدور اليونسيف، اذن بدأت اصواتهم تخبو ولم تعد القنابل تتفجر او يسمع لها من حديث.
الراديوات الصغيرة تحطمت بايدي الاطفال وهم يلعبون بخرزها الداخلية. والكهرباء هجرت خطوطها . وتحولت تلك الخطوط الى حبال غسيل وكانت بعض شفلات البلدية تجأر في كل يوم بزاوية من منطقتهم لتردم الصفيح وتتناثر الجذوع والصرائف والجملونات فيعاد هيكلتها ليلا لتنمو من جديد، هكذا موت وميلاد بعناد وصبر يثير الاعجاب .
اهل الحي اخذوا ينامون في النهار اذ غيروا منهاج حياتهم ليتفرغوا لاحياء الليل ليس للعبادة وانما لبناء ما تهدمه البلدية أما الباقون فيهبون هبّة رجل واحد وقبل ان تظهر عليهم شمسهم الشامتة ، يهرعون والليل عباءتهم باتجاه المدن لاسترداد زوجاتهم الدميمات، وحصرانهم التي بيعت بسعر التراب!
|
|