ابن هانئ .. الشاعر والقضية
|
*علي ياسين
عندما يحمل الشاعر قضية فإنه يعيشها ويصورها ويجسدها في شعره بأشكال مختلفة حتى تصبح هذه القضية، المحور الذي يدور عليه شعره وتتخلل افكاره وآراءه وقضيته ، كما تتخلل قطرات المطر مسامات التراب، حينها تتعانق انسانية الشاعر وقضيته فيسخّر لها جميع امكانياته الابداعية ليكون نشيداً لقضيته من جهة، وكلمة ورسالة لقضية الشعر من جهة أخرى، ويجد المتتبع لحياة الشاعر ابن هانئ الاندلسي هذه الخاصية، فقد تجسّدت في اقواله وافعاله وكانت قضية اهل البيت (ع) ومظلوميتهم تملأ جوانح هذا الشاعر فتصدح بها غير آبه بما يتهدده من خطرٍ حتى قال فيه القائل:
ان تكن فارساً فكن كعليٍ أو تكن شاعراً فكن كابن هاني
كل من يدَّعي بما ليس فيه كذّبته شواهد الامتحانِ
ولد محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الازدي الاندلسي بقرية (سكون) من قرى اشبيلية سنة (320) هـ ويتصل نسبه بالمهلب بن ابي صفرة، كان ابوه (هانئ) من إحدى قرى المهدية (تونس حالياً) وكان شاعراً معروفاً فيها، فانتقل الى الاندلس فولد له شاعرنا هناك.
نشأ ابن هانئ على حفظ وافر من الشعر والادب ومهر فيهما وأبدع وكان حافظاً لاشعار العرب واخبارهم، فخلفت قصائده الكثير من الاشارات الى وقائع العرب وذكر شعراءهم وساداتهم واجوادهم والاماكن التي ذكرها الشعراء الأقدمون وكان ملازماً لدار العلم بقرطبة فبرع في الكثير من العلوم اضافة الى الشعر كعلم الهيئة وغيرها ثم استوطن (إلبيرة) فعرف بالشاعر الألبيري. يقول عنه ابن خلكان: (ليس في المغاربة من هو أفصح منه لا مقدميهم ولا متأخريهم بل هو أشعرهم على الاطلاق وهو عند المغاربة كالمتنبي عند المشارقة).
*ثمن الهوية الشيعية
كان شاعرنا معروفاً بتشيّعه مجاهراً فيه كقوله:
لي صارمٌ وهو شيعي كحامله يكاد يسبق كرّاتي الى البطلِ
فاتهمه اهل اشبيلية بالكفر والالحاد واساؤوا القول في ملكهم بسببه، فأشار عليه بالرحيل فرحل الى البلاد المغربية و وصل خبره الى المعز الفاطمي فطلبه. وكان ابن هانئ يعتقد امامة الفاطميين فقدم على المعز في المنصورية بقرب القيروان ومدحه، ولما توجّه المعز الى مصر بعد ان فتحها جوهر الصقلّي شيعه ابن هانئ ورجع الى المغرب وتجهز ثم التحق به حاملاً معه عياله ولما وصل الى برقة وكان ذلك عام (362هـ)، فكانت المنية تنتظر شاعرنا اذ وجد مخنوقاً فيها ولما وصل خبر وفاته للمعز وهو بمصر تأسّف عليه وقال: (هذا الرجل، كنا نرجو ان نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدَّر علينا ذلك)، وكان عُمر ابن هانئ يوم قتل 36 سنة.
عُرِف شاعرنا بنفسه الشعري الطويل فقليل من قصائده تجاوزت السبعين او الثمانين بيتاً أما جُل قصائده فقد أربت على المائة ومنها ما بلغ المئتين ولكن هذا الاكثار لم ينقص من قوة القصيدة ولا حطّ من متانتها وسبكها وقوة نسجها يقول في احدى قصائده مادحاً امير المؤمنين (ع):
أ بني لؤيًّ اين فضل قديمكم بل أين حلمٌ كالجبالِ رصينُ
نازعتم حقَّ الوصيَّ و دونه حرمٌ وبْرٌ مانعٌ وحجونُ
ناضلتموه على الخلافة بالتي ردَّت وفيكم حدُّها المسنونُ
حرفتموها عن أبي السبطين عن زمعٍ وليس من الهجان هجينُ
وفيها يقول:
هي بغيةٌ اظللتموها فارجعوا في آل يا سينٍ ثوت ياسينُ
ردّوا عليهم حكمهم فعليهم نزل البيانُ وفيهم التبيين
البيت بيت الله وهو معظم والنور نور الله وهو مبين
والستر ستر الغيب وهو محجب والسرّ سر الله وهو مصون
النور أنت وكل نورٍ ظلمةٌ والفوق انت وكل قدرٍ دون
*الشاعرية والشجاعة
عقد اغلب المؤرخين والنقاد قديماً وحديثاً مقارنة بين شاعرنا والمتنبي يقول الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه (في الادب والفن) عن شاعرنا: (ان ابن هانئ شاعر ذو قريحة شاعرية مزيجية من شجاعة المتنبي ونفسية وتعبير ابي تمام ومعاني البحتري وفلسفة المعري فهو شاعر غربي اندلسي حذا حذو شعراء الشرق، لذا فهو شاعر عبقري متوقد الذاكرة متفلسف بارع في صياغة الشعر وبلاغة الكلام تجد في شعره المدح والهجاء والرثاء وانه خاض غمار رجل الفنون الشعرية وقصائد المدح عنده شبيهة بمدح المتنبي من حيث بناء القصيدة وقوة العبارة وغلبة روح الشجاعة فيها فقد اختار الالفاظ الصحراوية البدوية في بيئة رياضية جميلة) طفح شعر ابن هانئ بمدح أهل البيت (ع) ورثائهم يقول في احدى قصائده يذكر الامام الحسين (ع) وما جرى الى أهل بيته:
فلا حملت فرسان حرب جيادها اذا لم تزرهم من كميتٍ وادهمِ
ولا عذب الماء القراح لشاربٍ وفي الارض مروانيّةٌ غير أَيّم
ألا ان يوما هاشمياً اظلهم يطير فراش الهام من كل مجثم
كيوم يزيد والسبايا طريدة على كل موار الملاط عثمثم
وقد غصّت البيداء بالعيس فوقها كرائم ابناء النبي المكرّم
وفيها يقول:
بكم عزَّ مابين البقيع ويثرب ونسَّك ما بين الحطيم وزمزم
فلا برحت تترى عليكم من الورى صلاة مصلًّ او سلام مسلّم
اذا ما بناء شاده الله وحده تهدمت الدنيا ولم يتهدم
|
|