خط الرسالة الإلهية وطموح التجديد الانساني
|
*علي عبد الصمد
ما هي الحكمة في تواتر الرسل واستمرار الرسالات؟
اذا كانت رسالة إلهية واحدة كافية لهداية وتوجيه البشرية، إذاً لانتهى الأمر عند رسالة أبي البشرية النبي آدم عليه السلام، غير ان الرسل جاؤوا من بعده؛ من شيث الى نوح الى إبراهيم الى موسى وداود وسليمان وعيسى وسائر أنبياء الله عليه السلام. واذا كانت البشرية بحاجة الى تواتر الرسل، فلماذا انقطعت الرسالات وختمت بنبي الإسلام محمد (ص)، ولماذا توقف الوحي عند هذا الحد؟ فهل يعني هذا ان البشرية قد تكاملت حتى لم تعد محتاجة او فقيرة الى هداية الرسل والرسالات؟ وهل يعني اختتام الرسل والرسالات ان نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله (ص)، قد جاء كافيا وللناس كلهم؛ ولم تعد هناك من حاجة الى رسالة جديدة؟
هذه الاسئلة هي في غاية الحساسية والخطورة، لاسيما وأن أزمة ـ إن صح التعبير ـ ادعاء النبوة كانت قد استفحلت بعيد وفاة الرسول الاكرم (ص)، ثم لم يعد عهد من العهود الا وكان فيه مدعي للنبوة، وهو أشبه ما يكون بالدجالين والمشعوذين، وحتى عصرنا الحاضر لم يخلُ من ظاهرة إدعاء النبوة.
*استخدام الدين ضد الدين!
الجواب على الاسئلة المتقدمة أعلاه تكمن في أبعاد شتى، يقف في مطلعها ان الانسان قد أوتي من المشاكل الذهنية والعقد النفسية ما يحفزه على تبرير كفره بالله تعالى. فالانسان هو المخلوق الاكثر جدلاً، ومن ثم هو يستثقل الخضوع الى الحق بسرعة، إنما يضفي على كفره صبغة فلسفية، ويغطي تمرده وطغيانه على الارادة الإلهية بشتى صنوف الفلسفة الفاشلة.
ويأتي تحريف الدين في مقدمة أساليب الانسان للهروب من الحقيقة؛ وهو الدين الذي يأتي للدفاع عن القيم وصون الحقوق وحفظ ومضاعفة العلم والمعرفة، ولكن هذا الدين بالذات يتناوله المخلوق البشري الطاغي والمتمرد والخصيم ليحوله الى أداة للدفاع عن مصالحه وأهوائه الشيطانية.
فالدين الاسلامي الذي أكمله الله تعالى على يد نبينا محمد (ص) في غضون ثلاثة وعشرين عاما، وضحى من أجله المضحون من أجلاء الصحابة في الصدر الأول، تحول بعد هذه الفترة القصية الى ملك عضوض يتناوشه الطغاة، وأصبح منبر رسول الله (ص) الذي كان يجلس عليه ويعظ الناس ويأمرهم بتقوى الله وحفظ حدوده المقدسة، نفسه هذا المنبر أصبح وسيلة للقهر والاستضعاف وتحريف السنن الربانية.
فلقد كان الرجل من بني أمية ـ مثلا ـ ينصح الناس بزعمه ان يحاولوا إيصال ألسنتهم الى أرنبة أنوفهم ليدخلوا الجنة! ولقد سبوا أمير المؤمنين (ع) من على هذا المنبر الشريف، وهو أقرب الناس من رسول الله (ص) وهو الإمام الشرعي بنص القرآن والسنة النبوية؛ الإمام الذي كان يمثل روح الاسلام وقدوة الصديقين؛ إذن، هكذا اصبح مآل المنبر.
* مصلح السياسة أولاً..
إن تحريف وتحوير الدين لم يكن أمرا خاصاً بالدين الإسلامي فحسب، وإنما قد تعرضت ديانات سماوية لفتنة كهذه، فكان أن احتاجت البشرية الى مجدد يأتي ليعيد الناس الى الدين الخالص والصراط المستقيم، وأن يعيدهم الى الاهداف السماوية التي من أجلها بعث الله تعالى الرسل، وفي مقدمة الرسالات، رسالة نبي الله موسى عليه السلام، لكن جاء النبي عيسى بن مريم (ع) مبعوثا إلهيا لينفذ هذه المهمة المقدسة، كما جاء من كان قبله من الأنبياء ليتمموا رسالات الرسل السابقين لهم. وعليه فإن الرسالات المتتالية هي بالحقيقة رسالة واحدة في الأسباب والأهداف، فحينما تقرأ (سورة الشعراء) او (سورة القصص) او (سورة الأنبياء) تجدها تبين وتوضح بجد موضوع وحدة الرسالات السماوية، وعبارة "أن اعبدوا الله" تتكرر على لسان كل نبي الى أمته.
ولكن الرؤى السماوية التي جاء بها النبي عيسى (ع) قد حرفت هي الأخرى تحت ضغط السلطات الحاكمة آنذاك وبفعل انعدام الوعي الكافي بين الناس، لاسيما وان أحبار اليهود الضالين لم يكونوا ليتركوا من فرصة من النيل والتشويه في أفكار وسمعة هذا النبي العظيم او أمه الصديقة مريم الا واستغلوها. وإن التاريخ ليذكر بكل صراحة كيف كان اليهود يغرون ويؤلبون أباطرة الروم ـ عبدة الأوثان والخرافات والأساطير ـ على قتل وتشريد او محاصرة أتباع وأنصار النبي عيسى بن مريم (ع)، فمن قتل قتل، ومن عذب عذب، ومن شرد شرد.
وجاء المسيحيون الى قسطنطين ـ كبير أباطرة الروم ـ قائلين له: ماذا تطلب منا حتى تكف أذاك عنا؟ فقال لهم: أريد منكم أمرين: الأول ان تقدسوا الأصنام التي نعبدها، والأمر الثاني ان تبعدوا دينكم عن سياستنا، فاتركونا في قصورنا نفعل ما نشاء، واذهبوا انتم الى كنائسكم ومعابدكم وافعلوا ما تشاؤون!
وتحت ضغوط الترهيب والترغيب والحصار الاجتماعي الذي كان مفروضا على جماعات المسيحيين في كل مكان، وبفعل الجهل وعدم تدوين نصوص الانجيل حال نزوله على النبي عيسى (ع)؛ تحت كل هذه العوامل تولدت فكرة التراجع عن المبادئ من أجل الحفاظ على الحياة والمصالح الذاتية. فمن أجل ايجاد الروابط الحسنة بين الدين المسيحي الجديد العهد وبين السلطات الوثنية الحاكمة المتأثرة بالدعم الاقتصادي اليهودي، قرر كبار المسيحيين نشر نظرية جديدة تحدد معالم دينهم، وكان مفاد هذه النظرية ان الإله الواحد عاجز عن البقاء في وحدانيته فأصبح ثلاثة؛ فجزء منه في مريم وجزء منه في عيسى، وجزء في روح القدس!
ثم ان عزل الدين عن السياسة يعُد من وجهة نظر عقلية وفطرية تأليبا مباشرا على ارتكاب مختلف أنواع الجرائم والمعاصي، فالمجازر التي كان يرتكبها القيصر ضد بعض المدن والقبائل والشعوب المتمردة كانت تلقى سكوتا من قبل الكنيسة، كذلك الحال بالنسبة لمفاسد القيصر الأخلاقية والإدارية، مما يعني موافقة الكنيسة مباشرة تجاه ما يقوم به الحاكم؛ ومن ثم طرح علامات تساؤل كثيرة وكثيرة على هذا الدين الأخرص ازاء ما نص هو على منعه من قبل بنفسه.
ظهور الاسلام والتجديد
عندما تحول الدين المسيحي الى هذا الواقع المرير جاءت الرسالة السماوية الخاتمة بالقرآن الكريم، المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ هذا القرآن الذي قطع الله سبحانه وتعالى على نفسه ان يحفظه، فقال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون" (الحجر/ 9) جاء هذا الكتاب المقدس ليواجه كل تلك الانحرافات والضلالات والتحريفات في الدين. فالقرآن الحكيم صرح بقاطعية بكفر المسيحيين الذين جزؤوا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا لا ينبغي التهاون ازاء من قال بأن الله ثالث ثلاثة، اذ لا توجد مسافة بين الكفر والايمان، ولا يمكن ان نقول بأن هذا نصفه مؤمن ونصفه الآخر كافر. فالله لم يجعل لرجل واحد قلبين في جوفه.
وهنا السؤال: لماذا ختمت الرسالات السماوية برسالة النبي الأكرم محمد (ص)؟
الجواب يكمن في ثلاثة أوجه:
أولا: ان مسألة انحراف الدين في الشريعة الاسلامية أخف منها في الأديان السماوية الأخرى، اذ أن الإسلام جاء وجاء معه الكتاب المنزل من رب العالمين، ونصّ هذا الكتاب محفوظ عن التحريف حتى وإن حرف التفسير او تعددت معانيه. فالكتابة والتدوين كانا منذ عهد النبي (ص)، حيث يعد نبي الإسلام أول آمر بكتابة القرآن.
ثانيا: ان القرآن الكريم كان قد تسنّى له الحكم والتطبيق على عهد الأمين عليه، وهو رسول الله (ص). في حين ان اليهود ما كانوا ليقبلوا ما كتبه النبي موسى (ع) في الألواح وهو لمّا يتوفّى بعد، وكذلك القول بالنسبة الى النبي عيسى (ع)، حيث تذكر نصوص الانجيل المتداولة بأن وقت تدوينها لم يكن الا بعد ما يقارب المائة عام، فضلا عن أن آيات الانجيل لم تتسنَّ لها السيطرة على القوانين حال نزولها. ولكن القرآن الكريم كان قد أظهره الله، ورسوله كان موجودا بين الناس يقاوم الكافرين ويحكم المسلمين، ثم ان الحكومات التي تتالت على المجتمع المسلم كانت تحكم بإسم القرآن، وكان من غير الممكن ان تسعى هذه الحكومات ان تحرف نصّ القرآن وهي تبرر وجودها في المحافظة عليه، وتعتبر نفسها حارسة عليها، حتى وإن كان ادعاؤها هذا لمخادعة الناس وتمرير مراميها عليهم.
ثالثا: ان القرآن الكريم هو بحد ذاته معجزة في الخلود؛ وذلك من وجهات نظر عديدة، وفي مقدمتها ان أسلوبه في التعبير أسلوب فريد من نوعه، وليس بمستطاع أي مخلوق أن يأتي بمثله، ولو بمقطع واحد منه، وقد أجمع أهل اللغة والمعرفة والتفسير؛ المسلم منهم وغير المسلم اجمعوا على حقيقة إعجاز القرآن في هذا الجانب. فالله العلي العظيم يؤكد بـ "ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" (الاسراء /9) ومن الطبيعي ان يكون الهادي نورا ومصدرا مستقلا بذاته، مما يعني استحالة حصول الظلام او الانحراف فيه.
هذا من جانب، ومن جانب آخر: فإن الرسول الأكرم (ص) قد ارتحل الى الرفيق الأعلى، ولكن الأئمة من أهل بيته (ع) يتناوبون الإمامة هاديا بعد هاد، وحسب عقيدتنا؛ فإن الإمام الثاني عشر الحجة المنتظر (ع) شاهد غائب وغائب شاهد.
وهنا ميزة الاسلام من بين جميع الاديان والمذاهب، فهو رسالة مستمرة مع الزمن في مسيرة لها قيادتها وجماهيرها المؤمنة، ففي حالة غياب الامام المعصوم والقائد، فان هنالك أولياء لله تعالى من علماء الدين الذين ينوبون عن الامام الغائب عجل الله فرجه، في تحكيم الشريعة وارساء دعائم الاسلام في المجتمع، ولذا جاء الحديث النبوي: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل). وهو قول وثقه جميع العلماء من شتى المذاهب الاسلامية، وهو يشير الى أن الامة الاسلامية بحاجة الى علماء، لا تمر فترة دون حضورهم. صوناً لتعاليم الدين الحنيف وحماية للقيم والمبادئ الحقّة التي ضحّى من أجلها رسول الله وأهل بيته وكبار الصحابة والمؤمنين والمسيرة متواصلة.
|
|