التعداد السكاني العام: التعتيم والتحفظات
|
لطيف القصاب (*)
نسبة كبيرة من سكان العراق لا تزال تعيش عقدة الخوف من الاجراءات الحكومية الميدانية، وحتى وقت قريب كان العراقيون يخشون جباة فواتير الماء والكهرباء كخشيتهم من الرفيق الحزبي والشرطي ورجل المخابرات. والدوافع التي تلجئ المواطن العراقي الى استشعار احاسيس الريبة والقلق نتيجة رؤيته موظفا حكوميا بالقرب منه سيجد المراقب المستقل لها تبريرات واقعية كافية كلما رجع بالذاكرة الى طبيعة الحقبة الدكتاتورية الماضية التي حكمت البلاد طوال عقود طويلة وعملت بشكل منظم على اقتلاع جذور السكينة والامان من نفوس مواطنيها عبر ما كان يسمى جزافا بـ (اجهزة الامن)، وكلما قفزت الى الذهن حقيقة المشهد الامني المتدهور الذي ضرب ويضرب باطنابه على الواقع العراقي بعد زوال تلك الحقبة. فلا يمكن لوم هذا المواطن او ذاك حينما يتعامل بحذر شديد مع من يطرق عليه الباب حتى لو كان الطارق سيؤدي خدمة جليلة له ولعائلته مثل المتطوع لتلقيح الاطفال من الامراض الخطرة او الحامل لاستمارات التعداد العام للسكان.
وبقدر ما يتعلق الامر بالتعداد العام للسكان فان هذه اللفتة الحضارية بالذات والتي تحرص جميع دول العالم على ممارستها دوريا لاسباب تتعلق بخطط التنمية الاساسية للدولة لا تمثل بالنسبة للعدد الاكبر من العراقيين غير الخوف والريبة وتوقع الاسوأ مع الاسف الشديد. ولهذه الهواجس ما يبررها فآلاف الأسر العراقية المقيمة في بغداد مثلا بقيت حبيسة في مساحات ضيقة من الارض طوال عقود بسبب تعداد عام 1957 الذي حوله نظام صدام من اجراء روتيني مهم لحساب عدد نفوس المواطنين الى وسيلة من وسائل القمع المقنن والى كابوس رعب بالنسبة لمن استوطن مدينة بغداد بدء من عام 1958 فصاعدا او من رام السكن فيها بعد عام 1957 باعتبارها العاصمة لبلاده وباعتباره مواطنا له حق وحرية الاقامة والسكن في اي جزء من وطنه، هذا بالنسبة للمواطن العادي.
اما من يتعاطى مع ملف التعداد بحساسية سياسية فان له مخاوفه الديموغرافية هذه المرة على خلفية شيوع اطروحة قيمة المكون التي اريد لها عمدا او سهوا ان تحل محل قيمة المواطنة، فازاء القول بان المقاصد من اجراء التعداد العام هي امور تتعلق بتوفير قواعد بيانات واحصاءات رسمية دقيقة عن احوال البلاد والعباد ليس الا. هناك من يصر على ان اجندة سياسية واضحة المعالم (هو يراها) تقف وراء اجراء التعداد العام للسكان والمساكن المؤجل منذ عام 2006 وحتى يوم الناس هذا.
ان الحل الاوفق لمعالجة هذا التمنع وعدم التعامل بودية مع قضية اجراء المسوح والتعدادات العامة سواء من لدن المواطن البسيط ام بعض الجهات السياسية يمر عن طريق الدخول على خطوط وسائل الاعلام لاسيما المرئية منها. ذلك ان غاية انجاح التعداد لا تقل اهمية عن غاية انجاح اجراء الانتخابات النيابية التي كلفت خزانة الدولة جهودا واموالا طائلة، ومع هذا الفرض المنطقي فلابد من حملة اعلامية شاملة تستهدف عرض تفاصيل موضوع التعداد لجميع المواطنين بلا استثناء، ودعوتهم الى السعي الحثيث من اجل انجاح هذه الظاهرة الحضارية وتطمين هواجس الرافضين على خلفيات امنية وسياسية.
ان ما يثير الاسى حقا ان نشاهد يوميا عبر اكثر من فضائية عراقية واجنبية اعلانات حكومية مكثفة حول موضوعات باهتة بالقياس الى قضية التعداد العام في حين تغيب فكرة التعداد نهائيا عن لوحة اعلانات الحكومة العراقية. ان وزارة التخطيط وعلى لسان وزيرها تؤكد باستمرار جاهزيتها لاجراء التعداد الرسمي من النواحي الفنية واللوجستية كافة وكذلك تأكيدها المتواصل على كون التعداد لايستبطن مرامي سياسية ضد هذا الطرف او ذاك ولكن من غير ان يبرز السيد الوزير صورة رسمية لاستمارة التعداد وما تحتويه من حقول ومضامين فيلقي حينئذ بالكرة في ملعب المتحفظين او الرافضين. وعلى صعيد تعبئة الرأي العام باتجاه انجاح ممارسة التعداد فان ما نتوخاه أن تتذكر الجهات الرسمية ضرورة توعية الناس عن طريق وسائل الاعلام المختلفة بلا معقولية خوف أرباب الأسر من العدادين الجوالين لاسيما وان موعد التعداد الجديد الذي تجهله اغلبية المواطنين تأجل اكثر من مرة والذي تجهله اغلبية العراقيين ايضا.
(*) مركز المستقبل للدراسات والبحوث
|
|