في ذكرى مغادرة الإمام الكاظم المدينة المنورة الى بغداد
رسالتان من السجن : للإمام الكاظم وللنبي يوسف عليهما السلام
|
*إعداد / خليل ابراهيم
إثنان من أصفياء الله سجنا... أحدهما نبي الله يوسف والآخر هو الإمام موسى الكاظم سلام الله عليهما، نبي الله يوسف عليه السلام الذي ذكر الله سبحانه وتعالى قصته في أكثر من موضع في القرآن الكريم، كان من الأنبياء السابقين ويحظى بدرجة رفيعة بين سائر الأنبياء لخصال في ذاته وتكريم من رب العزة، ولمّا دخل السجن بسبب تلك القصة التي إتهم بها زوراً وبهتاناً، وجد نفسه وقد اعتدي على حقه في الحرية، فحمّل صاحبه رسالة للملك حتى يشرح له مظلوميته، هذه الرسالة أثارت غضب الرب جلّ وعلا، لأن يوسف عليه السلام رجا رحمة الملك ولم يرج رحمة ربه، فمكث في السجن عدد سنين بسبب تلك الغفلة، وحتى يعرف أن الخير والشر من الله ولن يصيبه شيء إلاّ ما كتبه الله له، لكن لم يحصل شيء من هذا عند الإمام موسى الكاظم عليه السلام وقد أودع في مطامير السجون المظلمة في بغداد، وينقل الرواة عن أحمد بن عبد الله ينقل عن أبيه يقول: (دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح البيت فقال لي إشرف على هذا البيت وانظر ماذا ترى؟ فقلت ثوباً مطروحاً فقال: إنظر جيداً، فتأملت فقلت، رجل ساجد فقال لي: أ تعرفه؟ إنه هو موسى بن جعفر أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل من يترصد أوقات الصلاة فإذا أخبره وثب يصلي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه فإذا صلى العتمة أخطر، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر، وقال بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: (اللهم إنك تعلم كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد.)
إنه يشكر الله على ما منحه من فرصة العبادة في السجن، وما من شك حتى يعد الإنسان الإبتلاء والمصيبة التي تقع خيراً وبركة نزلت عليه إنما هو يحتاج إلى علم هو غير متوفر لدى معظم الناس، فهو عند ذلك لن يعد ما يجده من الأذى والألم نتيجة الإبتلاء إلا خيراً.
لقد اشترك الإمام موسى الكاظم سلام الله عليه مع النبي يوسف عليه السلام في ارسال الرسالة من داخل السجن إلى ملك ذلك الزمان، لكن شتّان بين رسالة الإمام ورسالة النبي، فماذا كان فحوى رسالة الامام الكاظم عليه السلام؟ قال فيها مخاطباً هارون الرشيد: (لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا إنقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له إنقضاء يخسر فيه المبطلون) (البحار /ج6، ص148).
وربما يظن البعض بأن كتابة مثل ذلك هو أمر يسير، ويفعله أي إنسان، غير أن النبي يوسف سلام الله عليه كان أمله في الملك أن يحرره من معتقله إذا اكتشف مظلوميته، وهذا هو حال كل سجين أن يبقي على أمل ضئيل في قلبه بأن يرأف السجّان به ويطلق سراحه، فلماذا لم يأمل الإمام سلام الله عليه بهارون خيراً، ولماذا يكتب له مثل هذه الرسالة القاسية التي لايجرؤ أحد مخاطبته بها؟
كان الإمام على معرفة ببواطن الأمور، وكان يعرف يوم قبض عليه من قبل جلاوزة الرشيد إنه لن يكون هو يوم شهادته ففي الرواية حينما أتاه الفضل بن الربيع ويقول له إستعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك الله...! فقال عليه السلام: (أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ولن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء الله.)
ولـمّا دخل على هارون الرشيد، سأله هارون قائلاً: ما هذه الدار؟ فقال الإمام: إنها دار الفاسقين، قال الله تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً" (الأعراف /146). فقال له هارون: فدار من هي؟ قال الإمام: هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة، قال: فما بال صاحب الدار لايأخذها؟ فقال: أُخذت منه عامرة ولايأخذها إلا معمورة. قال: فأين شيعتك؟ فقرأ أبو الحسن عليه السلام قوله تعالى: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ" (البينة /1). قال الرشيد: فنحن كفار؟! قال الإمام: كلا.. ولكن كما قال الله: "الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ" (إبراهيم /28). فغضب هارون الرشيد من ذلك غضباً شديداً وأمر جلاوزته بالتغليظ على الإمام سلام الله عليه.
وفي حياته إبتلي الإمام الكاظم عليه السلام بإبتلاءات شتى، وشهد عصره تحولات كبيرة على صعيد الدين والسياسة، حتى وصلت الفتنة إلى درجة إنقسام الأصحاب والموالين إلى من يقول بإمامة إسماعيل بن الإمام الصادق عليه السلام، وكان يظن الناس إنه هو الإمام وإن الإمامة في صلبه، ولما توفي قالوا إنه لم يمت وسيبعث يوما ما، ليقيم العدل القسط وهي المقالة التي قالتها الإسماعيلية وهي طائفة لاتزال موجودة حتى أيامنا هذه.
في مثل هذه الأجواء كان على الإمام الكاظم عليه السلام أن يثبت للجميع بأنه هو الإمام الحق وإنه وريث السلالة المحمدية، وهكذا كان وهكذا فعل، فبفضل الله تعالى وما ألهمه من العلوم النبوية اضافة الى اخلاقه ونبله وخصاله الحميدة، تجاوز عليه السلام كل تلك الإبتلاءات والمشاكل وأبقى على مسيرة الرسالة مستقيمة ومضامينها مصونة من الزيف والانحراف حتى وصلتنا اليوم متكاملة متماسكة نفخر بها أمام العالم.
|
|