مالك الأشتر.. رسالة علي (ع) الى الانسانية
|
*خالد سعيد
التاريخ يخلد الزعماء والقادة الفاتحين ويحكي لنا ملاحمهم وسيرتهم حتى ان شابها الطغيان والظلم والتعدّي على حقوق الانسان وكرامته أو كانت عواقب أمورهم سوءاً وخراباً، لكن هذا لا يمنعنا من أن نميّز بين من قدم للإنسانية مصاديق للتضحية والايمان والوفاء وبين من لوث التاريخ بالدماء وأثقله بالمساوئ والمخازي.
فمن تشرّف به التاريخ وتخلّد في صفحاته، مالك الاشتر النخعي صاحب أمير المؤمنين عليه السلام وأقرب المقربين إليه في سوح القتال ضد الباطل والزيغ والانحراف وممثله وصورته الناصعة في ميدان الحكم والإدارة، وكيف لا يكون كذلك وقد قال الإمام في رثائه ما لم يقله في غيره: (من مثل مالك...)؟! وقال أيضا عليه السلام: (عقمت النساء عن ان تلد مثل مالك..) وقال: (كان لي مالك كما كنت لرسول الله).
انه مالك بن حارث بن يوِث بن سلمه بن ربيعه.. بن يعرب بن قحطان، لقبه الاشتر، لأن إحدى عينيه شترت اي شقت في معركة اليرموك. تقدر ولادة مالك الاشتر بعد التخمين لأن لا توجد مصادر تاريخية تؤكد ولادته بالضبط رغم اختلاف السنوات لكن هناك تخميناً يتراوح ما بين سنتين (25 ـ 30) للهجرة.
عاصر مالك الاشتر النبي (ص) ولكنه لم يره ولم يسمع حديثه، ويذكر التاريخ ان مالكاً كان من بين المجاهدين الشجعان الذين خاضوا معركة اليرموك وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم. ولا يقتصر على هذا فقط بل أشارت العديد من المصادر الى ان مالكاً كان قبل معركة اليرموك قد شارك في فتوحات الشام ودافع عن مبادئ الاسلام.
جهاد الكلمة
في عهد عثمان عاش المسلمون أوضاعا مضطربة وسيئة جدا بسبب سياسات عثمان الظالمة والمجحفة، فانطلق الاشتر ليسجل الدور الأول والرسالي في جبهة الاصلاح هذه المرة وتقويم المسيرة ومواجهة الانحراف في الداخل، وهو ما يكون صعباً جداً في كثير من الأحيان ولا يمكن السكوت عليه او مهادنته..
لذا جاهد مالك بلسانه عندما رأى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود وقد كُسر ضلعه وأخرجه عثمان من المسجد النبوي، كما أعلن التنديد والاستنكار ضد تنكيله وظلمه الفادح للصحابي أبي ذر العفاري عندما تعرض للضرب بكل قسوة من قبل حاشيته الأموية، وكان جزاؤه النفي ثم الموت وحيدا وسط صحراء الربذة، كل ذلك ليس لذنب أتاه هذا الصحابي سوى أنه صدح بالحق وفضح النهب والسلب وانتهاك حقوق المسلمين جهارا.
وكان من مواقفه المشرفة مع الوليد ابن عقبة هو شقيق الخليفة عثمان وكان والياً على الكوفة، وقد عرف بتصرفاته المنافية للإسلام، فكان يجهر بالسوء ويشرب الخمر ويقضي وقته في مجالس الغناء واللهو، ولم يقتصر على هذا بل كان يخرج الى المساجد وهو في حالة سكره فكان المسلمون ينتقدون هذا الموقف ويستنكرونه فوجدوا أفضل طريق ان يستشيروا أهل التقوى والإصلاح، فذهبوا الى مالك فهو شخص تقي وشجاع فقال مالك الأفضل ان ننصحه أولا فإذا لم يرتدع نشكوه الى الخليفة، وذهب مالك وبعض الناس معه من الصالحين الى قصر الوالي وعندما دخلوا وجدوه يشرب فنصحوه لكنه لم يكتفي من ذلك فقرر ان يسافر الى المدينة لمقابلة الخليفة لكن هو الآخر رفض اعتراضهم ورد شهادتهم وطردهم! فذهبوا الى منزل صاحب الحق الإمام علي (ع) وشكوا له الحال؛ فشعر بالحزن والأسى، لذلك فذهب بنفسه الى عثمان ونصحه قائلا: (يا عثمان ان المسلمين يشتكون من الظلم واني سمعت رسول الله (ص) يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور كما تدور الرحى ثم يرتطم في غجرة جهنم) واني احذرك من عذاب الله.. ففكر عثمان واعترف بأخطائه.
في معسكر الحق
عندما عاد الحق الى أهله واجتمعت الأمة على تعيين الإمام علي بن أبي طالب (ع) خليفة، كانت مواقف الاشتر واضحة وجلية المعالم فهذا العملاق الشجاع أصبح جنديا مخلصا لأمير المؤمنين(ع) فلم يفارق الإمام علي (ع) قط كما كان من قبل فلم يرفض له طلباً، لذا وقع اختيار الإمام له ليكون واليه على مصر.
فقال أما بعد: (فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف. ولا ينكل عن الاعداء ساعات الروع. أشد على النجار من حريق النار. وهو مالك بن الحارث).
قيل انه أول من بايع الإمام علي (ع). وزود امير المؤمنين (ع) بالمقاتلين والامدادات والمحاربين في معركة الجمل الحاسمة. وفي معركة صفين عمل على بناء جسر على نهر الفرات ليعبر عليه جيش المسلمين.
وفي أعقاب أحداث (الردّة) التي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام، من قبل أصحاب الجمل وأصحاب التحكيم - الخوارج-، كان الاشتر الى جانب الامام يواسيه ويحكم أمره بين المسلمين، ومن مواقفه العظيمة والمشهودة التي قلّما يخرج فيها قائد عسكري ناجحاً، عندما وصل على مقربة من خيمة معاوية وقد انهار معسكره وهزم جيشه، فكان يصيح بأن: ما هي إلا خطوات وأقضي على الشر ورأس الفتنة، لكن الطامة الكبرى جاءت على رأسه وعلى المسلمين جميعاً، وغيرت مجرى التاريخ بأسره، بلغه الرسول ان أمير المؤمنين يأمره بالامتناع عن قتل معاوية والانسحاب فوراً! فانسحب بكل هدوء واطمئنان وقد كتم أسفه البالغ وغيظه على جهل البعض بمكانة الامام ومنزلته، فقد هدد الخوارج الامام بأن اذا قتل صاحبك معاوية سنقتلك!! وكانوا يرددون: كيف نقاتل أناساً يحملون القرآن الكريم، علماً أن قوتهم البصرية لم تسعفهم لأن يكتشفوا الزيف والخدعة التي مررها ابن العاص و رفع محامل الابل على رؤوس الرماح على أنها مصاحف.
وبذلك مضى مالك الاشتر النخعي على نفس الطريق والنهج الذي مضى عليه سيده وأميره الامام علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد غُيب عن ساحة المواجهة غيلة وباسلوب رخيص وجبان، حيث سُقي السمّ وهو في طريقه الى مصر لتولّي الإمارة هناك بدلاً من محمد بن أبي بكر، فرحل شهيداً وشاهداً على فتن زمانه وخذلان الناس لإمامه.
|
|