قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

لمحات قرآنية عن المهدي المنتظر (عجل الله فرجه)
*زكي الناصر
إن القرآن الكريم كتاب إلهي يضم المنهج الإلهي الذي ينظم حياة الانسان، وهو الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق، وبتعليماته ينبغي إقامة الرابطة المعنوية والارتباط الغيبي بين عباد الله ومربيهم، ومن القرآن الكريم ينبغي تحصيل العلوم الإلهية والمعارف الدينية.
وقبل الشروع بالآيات المؤولة بإمامنا الحجة (عج) لا بد من تقديم نبذة مختصرة عن التأويل وما قاله علماؤنا الأعلام في هذه المفردة:
قال العلامة المحدث السيد هاشم البحراني (قدس سره) في مقدمة تفسير البرهان (ج1 ص7-8): أما بعد، فغير خفيّ عن أهل الإسلام والإيمان شرف القرآن وعلوّ شأنه وغزارة علمه و وضوح برهانه، وأنه الغاية القصوى والعروة الوثقى والمستمسك الأقوى والمطلب الأعلى والمنهاج الأسنى الذي من استمسك به نجا، ومن تخلف عنه غوى، الذي بدرسه وتلاوته والتفكر في معانيه حياة للقلوب، وبالعلم به والعمل بما فيه التخلص من الكروب.
غير أن أسرار تأويله لا تهتدي إليها العقول وأنوار حقائق خفيّاته لا تصل إليها قريحة المفضول، ولهذا اختلف في تأويله الناس، وصاروا في تفسيره على أنفاس وأنكاس، قد فسّروه على مقتضى أديانهم، وسلكوا به على موجب مذاهبهم واعتقادهم، وكل حزب بما لديهم فرحون، ولم يرجعوا فيه إلى أهل الذكر صلى الله عليهم أجمعين، أهل التنزيل والتأويل، القائل فيهم جلّ جلاله: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم" (آل عمران/ 7)، لا غيرهم، وهم الذين أوتوا العلم وهم أولو الأمر وأهل الاستنباط وأهل الذكر، الذين أمر الناس بسؤالهم، كما جاءت به الآثار النبوية والأخبار الإماميّة، ومن ذا الذي يحوي القرآن غيرهم؟ ويحيط بتنزيله وتأويله سواهم؟ وقد ورد عن مولانا باقر العلم أبي جعفر محمد بن علي (ع) قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أنه جمع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء(1).
*التأويل في اللغة والاصطلاح..
التأويل في مجمع البحرين: إرجاع الكلام وصرفه من معناه الظاهري، إلى معنى أخفى منه (2). وقال صاحب القاموس: (أوّل الكلام تأويلاً: دبّره وقدّره وفسّره)، وقال الراغب: والتأويل: من آل، يؤول، والتفسير أعم من التأويل. وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، أما التأويل في المعاني، كتأويل الرؤيا.
وقال العلامة الحجة الشيخ محمد مهدي زين العابدين (قدس سره): وتأويل الآيات أي بيان العاقبة وما يؤول إليه الأمر، لأن المراد بالتأويل، ما يرجع إليه الكلام، وما هو عاقبته، سواء كان ظاهراً يفهمه العارف باللغة العربية، أم كان خفيّاً، لا يعرفه إلا الراسخون في العلم(3).
وقال العلامة الطبرسي في ذكر التفسير والتأويل: التفسير: كشف المراد عن اللفظ والشكل، والتأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر..(4)
ومن أراد الاطلاع على آراء العلماء والمفسرين من كلا الفريقين فدونك كتاب (علوم القرآن عند المفسرين ج3) ففيه التعاريف الكاملة للتأويل والتفسير، وما يخص بحثنا هو: (ما تأويله بعد تنزيله)، فمع الآيات المؤولة بإمام زماننا (ع).
*الآيات المؤولة بالإمام الحجة(عج)..
بعد أن اتضح معنى التأويل لغة واصطلاحاً عند المفسرين وغيرهم، لننتقل إلى ذكر بعض الآيات القرآنية التي أوّلت بمهدينا المنتظر (عجل الله فرجه)، وهي كثيرة، وقد وردت في مؤلفات أجهد فيها علماؤنا الأعلام يراعهم لإثبات الحق ودحض الباطل، لكن نكتفي هنا بآيتين لضيق المجال:
الآية الأولى:
"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" (النور/ 55).
هذه الآية من جملة الآيات القرآنية المؤولة بالإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه) على الظاهر.
إن الله سبحانه وتعالى قد وَعَدَ المؤمنين الصالحين من هذه الأمة بأن يجعلهم المستخلفين لمن كان قبلهم، أي يجعلهم بدل الذين كانوا من قبل في هذه الأرض، والله تعالى يورث المؤمنين الأرض ويجعلهم يتصرفون فيها حيث يشاؤون، ويحكمون فيها بدين الله، بعد إعطائهم القدرة والسلطة وتوفير جميع الإمكانيات، ويجعل الله خوفهم أمناً، ولا يخافون لومة لائم، فلا يخافون أحداً إلا الله، والله من ورائهم محيط، ولا يقدر عليهم أحد من أصحاب القدرة والهيمنة، ويعبدون الله دون تقية أو مجاراة لأحد، ويتجاهرون بالحق الذي سوف يسيطر على أرجاء المعمورة، والله على نصرهم لقدير.
إن البارئ عزّ وجل (لا يخلف الميعاد) فقد وعد المؤمنين الصالحين من هذه الأمة المليئة بالخطيئات والسيئات، أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً وتكون حياتهم طاهرة ومطهرة، هو المعنى الظاهري للآية الشريفة.
وقد أجاد وأفاد العلامة الخطيب الراحل السيد محمد كاظم القزويني (قدس سره) قائلاً: إن هذا الوعد الإلهي المؤكد بلام القسم ثلاث مرات، وبنون التأكيد ثلاث مرات أيضاً لم يتحقق إلى يومنا هذا، ومتى كان المؤمنون الصالحون يتمكَّنون من الحكم على الناس وتطبيق الإسلام بكل حرية وبلا خوف من أحد؟! ومن هم المؤمنون الذين عملوا الصالحات الذين وعَدَهم الله تعالى بهذا الوعد العظيم؟!
ولو راجعت تاريخ الإسلام والمسلمين منذ طلوع فجر الإسلام، إلى يومنا هذا لعلمت علم اليقين أن وعد الله تعالى لم يتحقق خلال ألف وأربعمائة سنة.
إنني لا أظن أن مسلماً مُنصفاً يقبل ضميره بأن يكون المقصود من الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الأمويون أو العباسيون، لأن التاريخ المتفق عليه بين المسلمين بل وغير المسلمين يشهد بأن الأمويين والعباسيين ارتكبوا أعظم الجرائم، وأراقوا دماء أولياء الله، وهتكوا حرمات الله، وكانت قصورهم مليئة بأنواع الفجور والمنكرات(5).
إن الدين الإسلامي ما زال ولا يزال إلى يومنا هذا مهجوراً مجهولاً، وذلك لوجود التيارات المعاكسة لهذا النهج الصحيح، ولوجود بقايا الأديان السماوية التي حرفوها عن مسارها الحقيقي، فكل الأديان كانت تبشر بالدين الإسلامي، ولكن كل الملل الآن تسعى لكي تنهش هذا الدين!! هل تعلم لماذا؟ لأنهم عرفوا في كتبهم أن هذه الأرض سوف يحكمها رجل من قريش أو رجل مصلح يقيم العدل والعدالة على وجه الكرة الأرضية بتمامها، وعرفوا أيضاً أن الذي يخرج في آخر الزمان، هو من بني هاشم اسمه اسم رسول الله (ص) وخُلقه خُلق رسول الله (ص)، لذلك هم يسعون بما في وسعهم لكي ينهشوا هذا الدين من الداخل ومن الخارج، فنلاحظ بين الآونة والأخرى من ينعق ويتفوه على مذهبنا الحق ويستهزئ بالإمام الغائب(عج) ويقول أنه أسطورة وحكاية وضعتها الشيعة وعلماؤهم، لكي يسدوا نقصهم!! إذن متى هذا الوعد؟ ومتى يستخلف الله الذين آمنوا في هذه الأرض الواسعة؟ فيكون الجواب وتأويل هذه الآية كما يلي:
1- عن أبي بصير، عن الامام الصادق (ع) في قوله: (وعد الله الذين آمنوا... يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً) قال: نزلت في القائم وأصحابه(6).
2- عن ينابيع المودة، عن الامام السجاد (ع) قال: (هذه الآية نزلت في القائم المهدي) (13).
3- وفي تفسير العياشي: إن الامام علي بن الحسين (ع) قرأ آية: "ليستخلفنهم في الأرض" قال: (وهم والله محبوناً أهل البيت يفعل الله ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة). وهو الذي قال فيه رسول الله (ص): (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لأطال الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً) (7).
الآية الثانية:
قال الله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" (الانبياء/ 105).
الظاهر أن المراد بالزبور كتاب النبي داود (ع) وقد سُمي بهذا الاسم في قوله: "وآتينا داود زبوراً" (النساء/ 63)، وقيل: المراد به القرآن، وقيل: مطلق الكتب المنزّلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى ولا دليل على شيء من ذلك.
والمراد بالذكر قيل: هو التوراة وقد سماها الله به في موضعين من هذه السورة وهما قوله: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (الانبياء/ 7) وقوله: "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتقين" (الانبياء/ 48) وقيل: هو القرآن وقد سماه الله ذكراً في مواضع من كلامه.. والمراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم واستقرار بركات الحياة بها فيهم، وهذه البركات إما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا، لتمتع الصالح بأمتعتها وزيناتها فيكون مؤدى الآية أن الأرض ستتطهر من الشرك والمعصية ويسكنها مجتمع بشري صالح يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً (8).
وقيل في (تفسير الأمثل): وكلمة الأرض تطلق على مجموع الكرة الأرضية، وتشمل كافة أنحاء العالم إلا أن تكون هناك قرينة خاصة في الأمر، وإن كان البعض قد احتمل أن يكون المراد وراثة كل الأرض في القيامة، إلا أن ظاهر كلمة الأرض هي أرض هذا العالم عندما تذكر مطلقة.
ولفظ الإرث، يعني انتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم أحياناً بمعنى تسلط وانتصار قوم صالحين على قوم ظالمين، والسيطرة على مواهبهم وإمكانياتهم.. كما في شأن بني إسرائيل:
"وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها" (الأعراف/ 137).
وقد وردت هذه البشارة في الكتب السماوية السابقة، على أن الأرض سوف تستخلف من قبل أناس صالحين يرثونها ويرثون من عليها وهي استحقاق ومكافأة لهم من قبل البارئ عزّ وجل.
إن البارئ عزّ وجلّ قد ذكر حقائق مؤكدة وثابتة على مرّ العصور والدهور سواء في الزبور: "ولقد كتبنا في الزبور" أو في غيره من الكتب السماوية، وقد توجت الآية بـ(لقد) و(أن) المستخدمة للتحقيق والتأكيد وقد ذكر المفسرون أن (وراثة الأرض) في هذه الآية لها معنيان:
الأول: وراثة الأرض الدنيوية من منافع وغيرها.
الثاني: وراثة الأرض للصالحين الذين يعبدون الله ولا يشركون بعبادته شيئاً وهذا لا يتحقق إلا بالظهور الأقدس، وسوف يحكم الأنصار الغيارى من الشيعة الأوفياء، جميع الأرض ومن عليها ويصبحون حكام الأرض وسنامها، فيكون تأويل هذه الآية كما رواه الشيخ الطوسي في تبيانه عن الإمام الباقر (ع): (إن ذلك وعد الله للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض) (9)، وفي رواية أخرى عنه (ع) قال: قوله عزّ وجل: "وأن الأرض يرثها عبادي الصالحون" هم أصحاب المهدي في آخر الزمان(10).
ـــــــــــــــــــــــــ
*الهوامش:
(1) بصائر الدرجات: ص191 ج1.
(2) مجمع البحرين: مادة أول.
(3) بيان الأئمة (ع): ج3 ص193.
(4) مجمع البيان: ج1 ص80.
(5) الإمام المهدي (عج) من المهد إلى الظهور: ص43 -44.
(6) الحجة: ص148.
(7) ينابيع المودة: ص425، غيبة الطوسي: ص120.
(8) الميزان: ج14 ص329.
(9) التبيان: ج7 ص252.
(10) تأويل الآيات: ج1 ص332 ح22، البرهان: ج5 ص257 ح5.