قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

نور اليقين و مسالك المعرفة الإلهية
*كريم الموسوي
الجميع يحب ان يعيش النور، ولا يوجد انسان يرغب في ان يعيش ويموت ويحشر يوم القيامة أعمى، فالبشرية كلها تحب ان تعيش مع الحقائق وان لا تكون جاهلة ومحجوبة عن معرفة الله تعالى، وخلقه وسننه وبالتالي اكتشاف طريق السعادة والخلاص في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة.
ان هذا الطريق لاشك موجود في آيات القرآن الكريم، وخصوصا تلك الآيات الشريفة من سورة الانعام التي يبين الله عز وجل لنا فيها الطريق الذي سلكه النبي ابراهيم (عليه السلام) للوصول الى النور، وملكوت السماوات والارض والحقائق الكونية، حيث قال ربنا سبحانه: "واذ قال ابرهيم لابيه ازر اتتخذ اصناما ءالهة اني ارك وقومك في ضلل مبين* وكذلك نرى ابرهيم ملكوت السموت والارض وليكون من الموقنين".
ما هي المعرفة؟
المقصود بالمعرفة هنا ليس ان ننطق بشهادة التوحيد، او ان نصلي ونصوم، بل ان المعرفة تمثل قضية اخرى تتجسد في ان نذكر الله تعالى في كل لحظة، وان تعيش قلوبنا نوره، وهذه المعرفة هي التي كان يبحث عنها الانبياء والاولياء والحكماء والصالحون من عباد الله، فقد كانوا يدركون ان هذه الدنيا ليست سوى زينة وتفاخر، كما يشير الى ذلك ربنا سبحانه في قوله: "اعلموا انما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الامول والاولد".
وفي طليعة الانبياء كان النبي ابراهيم (عليه السلام) يستهدف الوصول الى الحقيقة، فكان طموحه كبيرا، صحيح انه كان مؤمنا ولكنه كان يريد ان يزداد ايمانا، ولذلك خاطب ربه عز وجل قائلا: "ارني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي"، وهكذا بدأ ابراهيم الخليل (عليه السلام) رحلته الايمانية هذه من خلال تكسير الاصنام في نفسه اولا، فكفر بها؛ وتحداها امام الملأ من قومه، رغم انه (عليه السلام) كان يتيما، وان آزر كان هو الذي يتولى رعايته وحمايته وهو الوزير عند نمرود طاغية ذلك العصر، ثم ان الاصنام كانت تمثل اقدس المقدسات عند آزر لانه كان يعبدها اولا، ويشغل منصب رعاية بيت الاصنام ثانيا، ولانه كان يصنع الاصنام بيده ثالثا، فكان مركزه مرتبط بهذه الاصنام، وقد كان النبي ابراهيم (عليه السلام) يعيش في بيت هذا الرجل، ومع ذلك فقط خاطبه في شيء من التهكم قائلا "اتتخذ اصناما الهةً" وبكلامه هذا حطم الاصنام الداخلية في نفسه. هذه الحجب التي كانت تفصل بينه وبين معرفة الحقائق. وبذلك وفقه الله تعالى لرؤية ملكوت السماوات والارض.
حجب اليقين
ويبين الله تعالى الهدف من هذه الرؤية قائلا: "وليكون من الموقنين" اي انه اصبح من الموقنين عندما رأى ملكوت السماوات والارض، ونحن نستنتج من هذه الآية ان الانسان يمتلك في الاصل قلبا نقيا، وعينا بصيرة وعقلا متوقدا ولكنه محجوب عن معرفة الحقائق بالشرك ومداهنة الآخرين على حساب مبادئه خشية تضرر مصالحه.
وفي الحقيقة فان هذه الخشية والمخاوف هي ادوات الشرك، والحجب التي لا تدع الانسان يرى الحقائق، فالله عز وجل اعطى للانسان العين، وجعل فيها النور ليرى الحقائق، ولكن هذا الانسان اقام امام عينيه حجب الشرب، فانحجب عن الحقائق، ومن الطريف انه الله تعالى استعمل في الآية السابقة كلمة (آلهة) ولم يقل إله واحد، اشارة الى ان الآلهة التي يعبدها الانسان من دونه تعالى مختلفة ومتعددة؛ فالثروة والسلطة والجاه، وكل الاعتبارات الدنيوية الاخرى من الممكن ان تتحول عند البعض الى آلهة مزيفة تعبد من دون الله سبحانه، وعلى سبيل المثال؛ فان البعض من الناس يتخذ من السلطة إلهاً يتعبد في محرابها فهو غير مستعد للتخلّي عنها.
طريق اليقين
وقد فصل لنا القرآن الكريم ذلك عندما يذكر لنا ان النبي ابراهيم (عليه السلام) انه رأى اثناء رحلته الايمانية كوكبا فقال: هذا ربي، ثم سأل ابراهيم (عليه السلام) نفسه قائلاً: اذا كان هذا هو الاله الحقيقي فلماذا أفل؟ وهكذا الحال بالنسبة الى الشمس والقمر وسائر كواكب المنظومة الشمسية فقد صغرت كلها في عين النبي ابراهيم (عليه السلام)، فلم يؤمن باي منها، فكيف يؤمن بالاموال والزخارف الدنيوية؟!
وبعد مئات السنين صدر نفس هذا الموقف من سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله عندما جاءه ابو طالب حاميه ووليه ونقل له اقتراح كفار قريش بان يترك الرسالة مقابل الاعتبارات الدنيوية، فقال صلى الله عليه وآله: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان اترك هذا الامر ما تركته تى يظهره الله او اهلك فيه ما تركته).
فما قيمة الملك وما قيمة الاموال؟ ان هذه الامور كلها تسقط من اعين هؤلاء المؤمنين الذين وصلوا الى درجة اليقين، فالانبياء عليهم السلام كانوا ينظرون الى هذه الدنيا نظرتهم الى الشيء التافه، فهل من المعقول ان يتركوا دينهم وايمانهم ورسالتهم من اجل هذه التفاهة؟ فاذا اراد الانسان المسلم ان يعيش في بحبوحة النور الالهي، ويرى الحقائق، ويكون مؤمنا حقيقيا، فالطريق الى ذلك واضح؛ وهو ان يزيل الحجب كلها، ولا يقدس شيئا غير الله تعالى وغير ما امر به.
فالانسان المؤمن يحترم المال لانه يعينه على دينه ومن خلاله يقضي حوائج المؤمنين، ومتطلبات الرسالة، فهو يريده من اجل الدين، ومن اجل احتساب الثواب والاجر لا من اجل نفسه، ومن اجل التمتع بالملاذ الدنيوية، وهكذا الحال بالنسبة الى الاعتبارات الدنيوية الاخرى كالجاه والقوة والسلطة، فانها كلها تمثل بالنسبة الى الانسان المؤمن جسرا يعبر من خلاله الى مرضاة الله جل شأنه، والفوز بنعيمه الابدي، والحصول على نور اليقين.