النبي الأكرم (ص).. المدرسة الأخلاقية
|
*الشيخ محمد علي الحرز
إن أي دعوة سماوية كانت أم غير سماوية، إذا أرادت لنفسها النجاح والاستمرارية لابد لها من أمرين في الدعوة يمنحاها الخصوصية والتميز لتستقطب من خلالهما الآخرين، وكلما كانا سليمين قائمين على أسس صحيحة ومتينة كلما زاد من احتمال نجاحها أمام الدعوات الأخرى، وفي المقابل كلما ضعفت هاتين الركيزتين كلما زاد من احتمال فشلها وزوالها، وهاتين الركيزتين هما :
أولاً : القاعدة الإيمانية..
ونقصد به الفكر الذي يبتني عليه سلوك ومسيرة حياة الانسان، فإن من أهم العوامل لنجاحه أن يكون قائم على قواعد إيمانية مستمدة من السماء، فمن خلق الخلق هو أبصر بهم وأعلم بمصالحهم، وكما جاء في الحيدث الشريف: (ما كان لله ينمو)، وكل ما سواه زائل وباطل، وهذا هو السر في خلود الرسالات السماوية رغم قدمها، بالمقابل اندثار العشرات بل المئات من الأفكار الزائفة والمعتقدات الباطلة رغم إثاراتها وحداثتها، لكونها مستمدة من فكر محدود وأفق ضيق من صنع البشر لا يخلو من مواطن النقص في العديد من جوانبه.
ثانياً : المنهج السليم..
وهو الأسلوب والطريقة التي يتبعها لتحقيق الدعوة ونشرها بين الناس نقول إنها أيضاً لابد أن تكون صحيحة وسليمة كي تستهوي قلوب الناس وتلفت انتباههم وهنا يوجد أسلوبين عادة يتبعهم البشر في دعواتهم هما :
أ- الدعوة من خلال الألفاظ، وذلك عبر طرح المواعظ والنصائح، والدعوة للتحلي بالأخلاق الفاضلة التي تقوم سلوك الفرد وترفع من شأنه والتي من أبرزها التواضع والحلم والزهد والكرم والسخاء والقناعة والهمة والشجاعة والحزم والحياء والبصيرة والإيثار وغيرها الكثير في شجرة الفضائل مما تجده في كتب مكارم الأخلاق. وفي المقابل الدعوة لتشذيب السلوك وتهذيبه بترك الرذائل والصفات التي تنفر وتبعد وما يعد عنصر هدم في المجتمع من قبيل الغش والغضب والتكبر والنفاق والغدر وغيرها من الرذائل.
ب- الدعوة من خلال السلوك، وهو الدعوة من خلال التطبيق العملي للسلوك الحسن دون الاكتفاء بالأسلوب النظري الذي لا يعطي أثره القوي ما لم ينعكس على التصرفات الخارجية التي يلحظها الناس ويشاهدونها وكما ورد في الحديث عن الامام الصادق (ع): (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم).
بعد هذه المقدمة نأتي إلى أخلاق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسلم الذي قال عنه رب الجلالة: "وإنك لعلى خلق عظيم" وقال عنه وهو يقرر السر في التفاف المسلمين من حوله وسبب نجاح دعوته فيقول تعالى : "ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك". ثم يأتي هو ليؤكد هذه الصفة في أعماقه فيقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فالأخلاق وسيلة وهدف لديه، فلو تأملت في كلماته ودرر أقواله تجد الكثير الكثير من تلك التوجيهات السامية نحو تربية النفس وتهذيبها ففي صلة الرحم تجده يقول : (صل من قطعك واحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك) وفي مجال التعظيم والاحترام يقول : (إن من تعظيم جلال الله عز وجل كرامة ذي الشيبة، وحامل القرآن، والإمام العادل) وفي الصبر يقول : (من يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، وما أعطي عبد عطاءً هو خير وأوسع من الصبر).
ولم يبق مجال من المجالات الأخلاقية إلا وتطرق اليه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين السبيل الصحيح في التعامل معه، وبين الآثار السيئة التي تخلفها سواء على الفرد أو المجتمع ومن ابرز تلك الجواهر التي جادت بها أنفاسه الشريفة قوله: (من أكل لقمة من حرام لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)، ويقول في أهمية المعروف: (اصطنع المعروف إلى أهله وإلى غير أهله فإن لم يكن من أهله فكن أنت من أهله).
ومن المشاكل العظيمة التي تواجه الإنسان في حياته العملية هي مشكلة الغضب وكيفية التخلص منه إذ كثيراً ما يغضب المرء فيتصرف بما لا يشعر ثم يندم حيث لا ينفع الندم وها هو النبي الأكرم يعطينا درساً في كيفية القضاء على هذه الآفة فيقول: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلاّ فليضطجع)، وفي حديث آخر يقول : (فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). ولو أردنا الاسترسال في عرض كلمات النبي ومواعظه لطال بنا الأمر وما هذه إلا جرعة خفيفة من العلاج الناجع الذي وصفه لنا مربي الإنسانية الأول النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم تكن مواعظ الرسول جوفاء خالية أو لنقل بعيدة عن سلوكه الاجتماعي، فقد كان كما وصفته احدى زوجاته في عبارة موجزة : (كان خلقه القرآن) بكل ما يحمله هذا الكتاب السماوي من تعاليم إلهية وإليك قبس من أخلاقه كما وصفه أصحابه ورأوه فيه.
كان رسول الله (ص) يعود المريض ويتبع الجنازة ويجيب دعوة المملوك، وكان يوم خيبر ويوم قريضة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف إكاف من ليف... وفي رواية أنه مرت برسول الله (ص) امرأة بذيّة وهو جالس يأكل، فقالت : يا محمد...! إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله : ويحك وأي عبد أعبد مني، فقالت : أما لي، فناولني لقمة من طعامك فناولها رسول الله (ص) لقمة من طعامه فقالت : لا والله إلا التي في فيك قال: فأخرج رسول الله (ص) لقمة من فيه فناولها فأكلتها. فما أصابها داء حتى فارقت الحياة.
ومن خلال ما سبق ننتهي إلى نتيجة أن الأخلاق لم تكن مجرد أمر عادي يتبعه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته العملية بلا غايات وأهداف، وإنما هي فلسفة كان يهدف إلى إنشائها وتكريسها في الوسط الاجتماعي العام والتي يمكن أن نلخص أهم النقاط لها من خلال الآتي :
أولاً: إن الأخلاق تطبيق لمفاهيم الشريعة، ونعني به إن الأخلاق في الدين الإسلامي من الأسس التي لا تتجزأ عن الدين الحنيف، كما لا يمكن أن يدعي شخص أنه يؤمن بالشريعة دون أن تنعكس على سلوكه وتصرفاته الخارجية إذ هي المظهر الذي يميز به الإنسان المتدين من غير المتدين، ومن هذا كانت المقولة للرسول (ص) : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
ثانياً: وسيلة للدعوة: لو أغفلنا الجانب الغيبي في نجاح دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسلم والتأييد الإلهي الذي سدد الرسول (ص) في جميع خطواته، نقول لو أغفلنا كل ذلك نجد إن عامل الأخلاق للنبي أهم عوامل جذب الناس والتفافهم حوله حيث وصفوه في الجاهلية بالصادق الأمين، لذا عندما صدح بدعوته كان محل ثقة لدى الكثيرين، وبالتالي التصديق به والإيمان برسالته.
ثالثاً: خلق للقدوة الحسنة: سعى الرسول (صلى الله عليه وآله) وسلم من خلال التحلي بالخلق الحسن والصفات الجميلة أن يخلق للمجتمع الإسلامي القدوة الحسنة والشخصية المتكاملة في جميع المزايا كي يكون مثلاً يحتذى به، ومصداق عملي للسلوك السوي، فكان بذلك النبي المربي الأول في التاريخ الإسلامي.
كما أنه من الجدير بالملاحظة تحلي القائد بالخلق الجيد وكونه المطبق الأول لما يدعو له يعتبر عنصر مؤثر في البيئة التي تحف به، ودعوة غير مباشرة في الإقتداء به.
رابعاً : التربية التعليم : فقد سعى النبي الأكرم نحو تربية أصحابه وتشذيب سلوكهم، ومحاربة الأخلاق الجاهلية التي كانت متكرّسة في نفوسهم والتي من أهم سماتها الخشونة والشدة وعدم احترام مشاعر الآخرين. من هنا رام النبي (ص) من خلال تصرفه معهم، وتحليه بالخلق الرفيق أمامهم كي يخلق من بذلك مدرسة أخلاقية يتربون من خلالها ويسيرون على هديها.
|
|