الترف المادي و اختبار الطغيان
|
*يونس الموسوي
لدى الناس أماني وطموحات غير أنه ليس جميعها مفيدة لهم، فبعض منها مضر، بل من شأنه ان يقلب حياة الإنسان رأساً على عقب، ومن جملة الأمور التي يرغب الإنسان أن تتحقق في حياته هو أن يعيش حياة الترف والراحة، وأن ينعم بكافة ألوان النعم التي أفاضها الله عزوجل على الحياة البشرية، وهذا طموح ليس بالمحضور او القبيح، بل هو نابع من فطرة الانسان على حب التملّك والركون الى الراحة والابتعاد عن القلق والاضطراب الذي يسببه قلّة ذات اليد.
لكن السؤال هنا؛ هل ان كل مترف – كما يفهمه عامة الناس- ينعم حقاً بالسعادة، ولا يداهمه القلق والمشاكل؟
لنقرأ حياة هذا النوع من الناس على ضوء القرآن الكريم، فهو يوضح لنا بكل صراحة حقيقة حياة هؤلاء، وللأسف لابد أن نقول بأن لهؤلاء دوراً سيئاً جداً ليس على مستوى حياتهم الشخصية فقط، إنما على مستوى الحياة الإجتماعية، بل ويمكن القول أنهم يمثلون الشريحة الرئيسة والمسؤولة عن دمار الحضارات والأمم، كيف ذلك؟
يقول القرآن الكريم: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (الإسراء /16) والغريب أن هذه الحقيقة التاريخية لم تقتصر على أمة دون أمة بل كانت قائمة ووقعت لكثير من الأمم والشعوب حيث يذكر الله عزوجل ذلك بقوله "وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا" (الإسراء /17).
ولابد من الاشارة هنا الى ان معنى المترف حسب المفهوم القرآني يختلف عنه في الثقافة العامة، حيث نجد أن المترف في القرآن الكريم هو الذي يمارس الفسق والفجور بينما المترف في الثقافة العامة هو كل ثري او غني، سواء كان فاسقاً او انساناً ملتزماً بالتعاليم الدينية. لكنهما يلتقيان في صفة (الطغيان)، التي ربما تسوق الانسان المترف المتديّن من حيث لا يشعر الى الفسوق والعصيان، بينما يكون الانسان الفقير بعيداً عن هذا الاحتمال لعدم توفر الاسباب لديه، وهذه بحد ذاتها تؤكد لنا وللمجتمع حقيقة انه ليس بالضرورة كل مترف سعيد ومحظوظ وكل فقير تعيس، اذ في حالات كثيرة نجد السعادة والاستقرار لدى الفقراء ومحدودي الدخل، يغبطها عليهم الاغنياء والمترفون.
وبما اننا معنيون بالمترف المتديّن الذي يعيش بيننا وهو أحد افراد المجتمع الاسلامي، علينا ان نعرف العوامل التي تؤدي به الى سلوك حالة الطغيان والفسوق.
كما ان حالة الطغيان ربما تكون في كثير من الحالات ملتقى المترفين والاثرياء بكل اصنافهم، فان حب المال والربح السريع هي العامل المشترك في فسوق وانحراف هذا الصنف من المجتمع، فاذا كانت اموال الاثرياء والمترفين ترفد في مشاريع اقتصادية وانتاجية وأخرى خيرية، لما كان بالاساس هنالك تسمية او طبقة للمترفين، لأن الانتعاش الاقتصادي من توفر فرص العمل وزيادة الدخل وارتفاع القدرة الشرائية وغير ذلك من عوامل القوة الاقتصادية،انما ستعمّ الجميع وسيشعر الجميع انهم بشكل او بآخر ينعمون بالترف والراحة. بينما العكس الذي نلاحظه اليوم في معظم بلادنا الاسلامية، حيث الاستثمار في مشاريع سياحية وانتاج سلع استهلاكية كمالية وعقارات، تلحق كل الأذى والضرر بافراد المجتمع، فصاحب الفندق لن يجد غضاضة من ان يتفق مع شركات طيران او سياحة تتعامل مع سماسرة الدعارة، او ان يستورد اجهزة الكترونية تكون عاملاً مساعداً لسلوك الشباب طريق التحلل الخلقي والتخلّي عن الدين والالتزامات الاخلاقية. كل ذلك بهدف تحقيق الربح السريع، ومن المعروف اليوم ان الربح السريع عادةً يأتي من هذا مشاريع او صفقات يكون محورها الاثارة الجنسية.
هذا الطريق هو الذي يبعد الانسان عن نور الهدى والحقائق القرآنية، فيتحول الى طاغية على شاكلة فرعون ونمرود وعاد وثمود، فهؤلاء إنما طغوا بما كانوا يملكون من الاموال الطائلة والمعادن الثمينة، وكانوا يتصورون انهم قادرون على كل شيء فما حاجتهم للهداية او اتباع نبي او رسول ظاهره كأحد الناس العاديين، يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن المنكر؟ القرآن الكريم في هذه الآيات يوضح شخصية المترفين وعاقبتهم: "وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ* فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ" (الواقعة41-48).
ان حب المال والتمسك به يدفع الانسان الى مصاف الطغاة والعصاة لربهم حتى يكونوا مصداق الآيات الكريمة ويكونوا من اصحاب الشمال وليس من اصحاب اليمين وهم عباد الله المكرمون. واذا طرح عليهم أحد سؤالاً عن احتمال وقوعهم في هكذا منزلق، نفوا ذلك بشدة، وأكدوا انهم عصاميون وان ثروتهم لن تكون قادرة على جرهم الى ما لايريدون. لكن الحقيقة ان الثروة من اموال وعقارات ومجوهرات ليست هي التي تجر الانسان، إنما النفس الامارة بالسوء وتراجع وازع الضمير أمام افراد المجتمع. نحن نلاحظ شواهد على ذلك عديدة ولا تحصى، بل هي ربما بعدد الناس المتجولة في الشوارع، فما أيسر على البعض وهو جالس خلف مقود لسيارة فارهة ان ينهر او يطرد فقير يطرق عليه زجاج السيارة ليفتحها ويطلب منه نقوداً بسيطة، وحصل ان احدهم كان في سيارة فارهة وتعد من أغلى السيارات في المدينة وربما يكون ثمنها يكفي لبناء ثلاثة بيوت، فجاءه احد المستعطين ولم يشأ ان يمد يده ليحصل على المال دون مقابل، فاخذ يمسح الزجاج الامامي علّ ذلك يكون دافعاً لحصوله على شيء من النقود، فاشار اليه صاحب السيارة بالرفض والتنحّي لكن يبدو ان ذلك المسكين لم ينتبه فواصل عمله بعفوية، فما كان من صاحب السيارة الا ان فتح باب سيارته واطلق صرخة بوجه ذلك الانسان سمعها كل اصحاب السيارات الواقفة خلف اشارة المرور!
من هنا جاءت التأكيدات في الكتاب والسنة وسيرة اهل البيت عليهم السلام على الانفاق والبذل في سبيل الله، وعدم البخل امام المشاريع الخيرية التي تكفل الايتام والفقراء والارامل، وعموم النشاطات الخيرية الانسانية التي تزيل قدراً كبيراً من ظاهرة الفقر عن وجه المجتمع الاسلامي. ومن اشهر الروايات في هذا المجال الحديث الشريف ان (الصدقة تسقط في يد الله قبل يد الفقير)، والآية الكريمة: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (البقرة /245)، علماً ان القرآن الكريم يضم خمس آيات اخرى تحمل الحثّ والدعوة السماوية لنا بان نقرض الله قرضاً حسناً لنحصل على الجزاء الأوفى، وقبل ذلك السعادة النفسية والراحة والاستقرار، فمعروف ان الانسان الذي يعطي لانسان يشعر بحالة من الغبطة والارتياح في نفسه، وهذه قطعاً مما أودعه الله تعالى في نفس كل واحد منّا من حب الخير والاحسان الى الآخرين، حتى يكون بايدينا صكّ الخلاص من أولئك المترفين الذين يشملهم العذاب والغضب الالهي في الدنيا والآخرة.
|
|