ثقافتنا .. بين الحياة والنهوض وبين الجمود والموت
|
*أنور عزّالدين
معروف كيف يموت الحي بيولوجيا: ينقطع عن التنفس فيتوقف عن الحركة.. كذلك تموت الثقافة؛ يتوقف فيها نبض الحركة فتتقلص وتنطوي، ثم تموت.
وكما يمر الحي بعدة مراحل قبل ان يلفه الموت، كذلك الثقافة تمر بنفس المراحل فمن مرحلة الصحة و الشباب الى مرحلة الشيخوخة، الى المرض، الى الموت.
أولاً: مرحلة الشباب
تتميز الثقافة الشابة التي لم تزل تحتفظ بكامل قواها الحركية والدفعية بنقطتين اساس:
الاولى: انها تبرر دائما دور (المشيئة) البشرية في تحمل مسؤولياتها الكاملة أمام الحياة .
الثانية : انها تستوضح للفرد أهدافه البعيدة التي يتطلع اليها او ينبغي ان يتطلع اليها .
والقرآن الكريم من أبرز واروع الامثلة التي تجسد روح الثقافة الحية، فهي من جانب تكرس كثيرا من توجيهاته نحو المشيئة الحرة التي يتمتع بها البشر، وتعطيه جرعات كبيرة من الاحساس بالتحدي ازاء عوامل الحياة الضاغطة. يقول تعالى: "وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى" (النجم / 39-41)، ويقول تعالى أيضاً: "فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ" (الفجر / 25-26) . ويقول سبحانه: "إِنَّ اللـه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَــوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ" (الرعد / 11) . كل هذه الايات تشير الى دور الارادة لعل الانسان ينتبه ذاتياً، ويقـوم بخلق حياة أفضل .
والقرآن من جانب آخر يقوم بشرح القيم التي ينبغي للانسان ان يتطلع نحو تحقيقها في حياته، ومنطق القرآن في هذا المجال واضح جداً، انما هي دنيا وآخرة، والثانية خير من الاولى، ولكن ينبغي ألاّ ننسى نصيبنا منها أيضاً... إن اهداف البشر لدى الثقافة الاسلامية واضحة جداً، والدعوة الى تحقيقها مؤكدة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: "تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً" (القصص /83) .
ثانياً: مرحلة الشيخوخة
أيام الشيخوخة في الانسان تزيد صاحبها ضعفا وتشاؤما، كذلك أيام الشيخوخة في الثقافة تتسم بضعف القيم الدافعة نحو التقدم والحركة والانطلاق .
في هذه الايام تلعب السياسات التوافقية التي تنشأ من الاتحادات السطحية دورا بارزا في تقرير مصير الامم والشعوب، وهذه السياسات ناشئة من لون خاص من الثقافة هي: (ثقافة التوفيق) وهذا النوع من الثقافة خالية من حماس القيم. انها ثقافة تبحث عن حلول وسط لجميع المشاكل، وتحاول تجنب المناطق الحاسمة من الافكار، وتكرس نشاطها لمعرفة اوجه الوفاق حتى بين النظريات الشديدة التناقض.
وبالرغم من اتسام هذه المرحلة من عمر الثقافة بطابع (العلمية) إلاّ ان دافعها هو الشعور بالضعف، والبحث عن الراحة . وفي الامة الاسلامية ترى هذه الثقافة بين جمهرة كبيرة من مؤلفي القرن الثاني الذين ضعف فيهم الاحساس الديني واخلدوا الى الهدوء، باحثين عن الحلول الوسطى .
عند هؤلاء المؤلفين ذهبت روعة آيات القرآن الكريم والروح الحركية الدافعة التي تكمن فيها. من هنا اقتصر تفسير القرآن الكريم على مجموعة بحوث لغوية واعرابية وكلامية عقيمة.
ويكفيك ان تلقي نظرة على أي تفسير من تفاسير القرن الثاني وما بعده حتى تجد فيها الفراغ الروحي والجدل البيزنطي حيث يتبادل المفسرون الاراء والردود، ويحاربون انفسهم بسيوف من خشب، والغريب ان الكثير من هذا الجدل كان يستخدم من أجل دعم مركز السلطات الديكتاتورية الحاكمة، او تأييد بعض المذاهب العتيقة بغرض الحصول على مكاسب سياسية آنية.
وكذلك الأمر في المؤلفات التي تتناول التأريخ الاسلامي، حيث يتناول المؤلفون الجانب الجامد من ذلك التأريخ، مثل دفاع مستميت عن بعض الشخصيات التأريخية، دون البحث في تلك (القيم) التي صاغت تلك الشخصيات، وذلك من أجل تكوين شخصيات اخرى مماثلة.
ثالثاً: مرحلة المرض الثقافي
لكي نستطيع تحقيق نهضة متينة شامخة لابد ان نتعرف على جراثيم المرض التي تهدد الثقافة من اجل القضاء عليها الان والتحصن ضد تجددها في المستقبل .
لقد حددنا العنصر المريض في الثقافة بأنه الذي يدعو الى الاسترخاء والتفرقة والخنوع، ولكن يجب الا تفوتنا هذه الملاحظة وهي ان دعوة الفكرة المريضة لا تأتي صريحة ومكشوفة حتى نستطيع تحديد ابعادها بسهولة، والصعوبة البالغة تنشأ من اشتراك الالفاظ غالبا بين معنيين؛ احدهما مريض والثاني صحيح، ولذلك فان حاجتنا ماسة الى وضع مقاييس ثابتة لكشف العنصر المريض، وثمة أمثلة من عناصر المرض في الثقافة، ونستشهد بثقافتنا الاسلامية لانها أقرب إلينا.
1- الاستسلام للواقع، والاعتقاد بأنه افضل ما يمكن حدوثه، ذلك ان هذا الاستسلام يميت التحفز البشري نحو التطوير والتطلع نحو حياة أفضل، وبالرغم من ان الاعتراف بالواقع من مظاهر الصحة في الثقافة، فان الرضا به من أسباب المرض.
ولكي يكون الاعتراف بالواقع - مظهراً صحياً - في ثقافة الامة، لابد ان يتم بمساوئه ومحاسنه جميعا. فنحن نؤمن بسيئات الواقع لانه الخطوة الاولى لتغييرها، ونؤمن بحسناته لانه بدون هذا الايمان نسقط في بؤرة اليأس حتى الاذقان، وكثيرون أولئك الذين تعمى فيهم عين الرضا فلا يبصرون سوى السواد والظلام، ولا يشعرون بغير القلق واليأس، هؤلاء الرجال يفقدون القدرة على تطوير الواقع، لانهم فاقدون للأمل بذلك .
2- ان الثقافة الحقة هي التي تعترف بالواقع كله؛ حسناته وسيئاته، لتجعل الانسان في محور الخوف والرجاء، وتدفع به قدما الى القمة. وفي توجيهاتنا الدينية نجد هذه الرواية: قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: الا اخبركم بالفقيه حقاً ؟
قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
قال: من لم يقنط الناس مـن رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله.
وغريب جداً ان يفسر فريق من الامة بعض مظاهر الصحة في ثقافتنا بطريقة تتحول الى عوامل المرض!
مثال ذلك؛ الشكر لله، وهو عمل شريف وواجب، وخلفية الشكر الايمان بما في الواقع من عناصر ايجابية، ويحتوي على شحنة كبيرة من الأمل بجانب شحنة مماثلة من الخوف، اذ انه يجعلك تعتقد ان النعمة المخولة اليك قد تزول عنك فيما اذا قصّرت في اداء حقها، كما انها تزداد اذا اديت حقوقها. وهذا التوجيه افضل وسيلة ثقافية تفك طوق اليأس عن الفرد من جهة الايمان بوجود النعمة له وتحصنه ضد الترهل من جهة الاعتقاد بانه ستزول عنه النعمة اذا قصّر في حقها. ولكن هذا الشكر يتحول الى عنصر سالب في الثقافة عند فريق من أبناء الامة، اذ انه اصبح لديهم وسيلة للاستسلام للفساد. والخنوع للظلم وذلك بتركيز النظر الى الجوانب الايجابية في الواقع دون التفكير في الجوانب السلبية منه .من هنا جاءت امثالهم الخانعة تقول: (اليد التي لا تستطيع ان تقطعها قبلها).
ان هذه النظرة الى الشكر بعيدة جدا عن النظرة الواقعية التي دعا إليها االاسلام . فالقرآن الحكيم يقول: "اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" (سبأ /13) انه يدعونا الى العمل (شكراً) لا الى الكسل (شكراً)! وهو اروع صيغة للشكر اذ انه تركز على أهم عناصره وهو العمل.
3- ومثال ذلك الصبر على المكاره، انه يعني احتمال الصعوبات التي يحتاج اليها الجهاد، لكن لا يعني بحال، الخنوع للأذى وانتظار التغيير الطبيعي.
ان الصبر هو تربية عالية على التضحيات الضرورية من اجل التقدم. الصبر عن الرغبات المستعصية حتى تبلغ النفس تطلعاتها الكبرى، وليس الصبر عملاً سلبياً، يعني الانتظار الجبان للمستقبل الافضل. "إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ" (الرعد /11).
والتوجيه القرآني يضع الصبر في موقعه المناسب على صعيد الثقافة الحية فيقول: "يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (التحريم / 9). ان الصبر هنا يعني تجاوز الصعوبات التي تعترض مسيرة الجهاد البنّاء ولا يعني -حسبما يتصوره الجاهلون - التسليم والرضا لنواقص الحياة ومساوئه، اذ ان الله سبحانه قدر وقضى.
4- الايمان بالقضاء والقدر وجه صحي آخر لثقافتنا وهي تعني؛ عقلانية قرارات الفرد ضرورة بالغة الخطورة لقدرته على التقدم، ولن يكون الفرد عقلاني القرار الا بالايمان بعقلانية الكون المحيط به. فالايمان بوجود نظم كونية، هو الخطوة الاولى لمعرفة هذه النظم ثم توظيفها في خدمة الاهداف. أرأيت الذي يزعم فوضوية دولة، هل يمكن ان يفهم ضرورة تقيده بنظامها؟ اجل الذي يؤمن بوجود دستور نافذ في دولة ما، يعرف انه لن يتقدم إلاّ بتطبيق ذلك الدستور .
كذلك الايمان بان الحياة ذات سنن متقنة يجريها رب قدير حكيم، يجعلنا نفتش عن تلك السنن، ونعمل وفقها في سبيل الحصول على اهدافنا، وبالتالي يجعلنا عقلانيين في قراراتنا. فالايمان بالقدر والقضاء جزء من حضارة الانسان وعامل في سبيل تقدمه، ولكن تلقّي الامة لهذا الايمان بشكل معكوس تماما، فبات مبررا للتقاعس، وطريقاً الى الهروب عن تحمل المسؤوليات، فترى احدهم ينام على أمل الخير الذي يرجو ان يزجيه له القدر، ويستيقظ من خوف الشر الذي يستبطنه له القدر، فأين الارادة وأين السعي، وأين قوله سبحانه: "وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى" (النجم / 39-41). لاحظوا "الا ما سعى" والسعي عملية ارادية هادفة، دونها ليس له من الامر شيء اليس كذلك ؟ فلماذا نعكس تفسير الحقائق ؟
ان التوجيه الثقافي الخاطيء هو الذي يحول فكرة القدر من عامل موجب الى عامل سالب، ثقيل الارادة، يكبت الحرية ويحوله من سبب للعقلانية في القرار الى سبب للطوباوية والفوضى. وهكذا فبدلاً من ان تكون الثقافة الاسلامية عاملا ايجابياً في البناء الحضاري، تنقلب عند الامة المريضة الى عامل سلبي ضد كل بناء حضاري .
|
|