قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الإنسان؛ بين الخمول والتصحيح
*علي ضميري
لم يخلق الله سبحانه وتعالى ابن آدم في الحياة الدنيا الا ليجد ويجتهد في أداء دوره الحقيقي المرسوم، وليس دوره سوى عبادة خالقه وطاعته ومعرفته، وله خلال ذلك أن يستفيد بشكل طيب ومشروع من النعم المتاحة له.
إذن، فهو قد خلق ليكون كائناً فاعلاً ومؤثراً؛ في نفسه وفيما سواه. دون أن يكون جسداً خاملاً يتوقع من يؤدي دوره عنه، ويقوم بمسؤولياته نيابة عنه، لاسيما وأن الله خالقه قد زوده بطاقة العقل ومثالية الروح وقابلية الحركة وقوة الإرادة ، وجعله محكوماً بناموس الثواب والعقاب. فمتى ما استجاب الإنسان المخلوق لقواعد حكمة الحياة، وانطلق في ممارسة دوره المرسوم ليكون موجوداً فاعلاً، فإنه في ذات الوقت، عليه أن يتسلح بالمقدار الكافي والصورة الواعية بما أنعم الله عليه و زوده من الوسائل، كوسيلة العقل والروح والعلم والإرادة.
أما إذا ارتكب بعض الأخطاء لدى انطلاقته المشار إليها، بسبب الجهل، أو خمول الحركة، أو ضعف الإرادة، وهذه بمجموعها يمكن تسميتها بضعف التوجه إلى العمل الصالح، أو انخفاض معدل الورع والتقوى لديه، فإنه سيكون أمام واقع غريب عن الحكمة من خلقه وإيجاده في الحياة الدنيا.
فماذا ينبغي أن يكون موقف الإنسان تجاه هذا الواقع الغريب، وتجاه ما يقع فيه من الأخطاء؟ هل يختار الصمت ويتخذ موقف اللامبالاة والتفرج؟ أم أن ما لديه من سلاح العقل والإرادة والإيمان يوجب عليه أن ينطلق نحو التصحيح والعودة إلى جادة الصواب والحكمة؟
إن انتقاء أحد هذين الخيارين.. خيار الإصرار على ممارسة الخطأ، وخيار العودة والتصحيح.. يستدعي وإلى حد كبير معرفة قضية أساسية والتأكد منها.. قد رافقته منذ الوهلة الأولى لوجوده في الحياة، وهي: أنه كولدٍ من أولاد آدم وحواء عليهما السلام لم يخلق معصوماً عن ارتكاب الأخطاء وأن صدورها عنه أمر متوقع، خصوصاً وأنه لايعيش بمفرده، وتتناوشه الظروف والضغوط والنواقص من كل صوب واتجاه وبمجموعها أمور متوقعة، فهو يعيش وقد يرى نفسه مضطراً في بعض الأحيان إلى العيش بين أناس خطائين، أو قد يولد لأبوين ليسا على قدر كافٍ من العلم والتقوى والوجدان الناصح. مما يدفع به إلى بذل المزيد من الجهود لتلافي النقص الحاصل لديه في العلم والارادة الذين يشعر بهما ويعاني منهما. وهو خلال ذلك قد يخطأ أو يتوقع له أن يخطأ بفعل المعاناة وتعرضه للضغط الناجم عن بذل الجهود والمساعي نحو التعلم ورفد ارادته ومضاعفته للرغبة في التكامل وهجر المغايب بأنواعها.
بلى، إن من آيات ودلائل استمرار الفرد في طي طريق التكامل، هو التفاته الدائم وتنبهه إلى ارتكابه الذنب والخطأ. ولكنه إذا تجاهل خطورة الخطأ، أو إذا كان جاهلاً أصلاً بما هو خطأ وما هو صح. فهنا يتوجب القول بأن هكذا إنسان يخوض في مسار التسافل والتراجع، نظراً لأنه لايعي، أو لايريد أن يفهم حقيقة وجوهر الحياة، ولماذا خلق فيها، ولأي هدف سامٍ جاء لها؟!
وحتى نعتبر كل ذلك حقائق ملموسة ومشهودة في حياة الإنسان، تجد الله عزوجل يقول: "إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين". والتواب هو كثير التوبة والعودة، إضافة إلى ما يعنيه هذا النص المقدس من أن الله تعالى لم يحدد ذنباً بعينه للإنسان المسيء لكي يتوب له ويعود عنه، بل إنه تبارك اسمه قد جعل باب التوبة مشرعاً لتشرع العودة وتكرر، وليس مهماً عددها مادام صاحبها لايستصغرها، ومادام غير متلاعب بنعمة التوبة والغفران من جانب الله تعالى.
فهو سبحانه يحب من عبده الإنسان أن يعود إليه مراراً، وأن لايسمح لنفسه بكثير الإنحراف واستطالة مدة الاعوجاج. حتى لقد ورد في المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام أن الله سبحانه يقبل من عبده التوبة حتى لحظة مفارقة روحه جسده عند آخر أنفاسه، مادام قد أقر بالخطأ وأعلن ندمه التام. ولذلك فقد عدّ ديننا الإسلامي موضوع التوبة وفعلها من جملة الأعمال الأرقى والأصلح التي يمكن للإنسان أن يقوم بها خلال حياته.
يبقى أن نؤكد على أن أول خطوة من خطوات التوبة، هي الاعتراف بارتكاب الخطأ مع وضوح التفاوت الكبير بين المقاييس الإلهية وبين مقاييس وحسابات بني البشر، إذ المحاكم البشرية لاتغض طرفها عن المجرم، وإن أقرّ واعترف، غير أن البارئ الذي يحب مخلوقه المسيء التائب قد وسعت رحمته كل شيء، وعمّ لطفه من يشاء، فإنه يعد المعترف بالذنب والنادم على جريرته، مبرّءاً منه متخلّصاً عنه.. لأنه تبارك وتعالى يحبّ للإنسان أن يتحلّى بالقدرة على تحديد الصح وتمييز الخطأ.. والإقرار بالذنب من أجلى مراحل بلوغ ابن آدم مرحلة التمييز بين الحق والباطل، وبين الصح والخطأ.
بل إن الاعتراف بالخطأ، اعتراف بين يدي الله بالتقصير، وهو في النهاية تمهيد لعدم الرجوع إلى الخطأ. وحتى يبلغ الإنسان هذا المستوى الرفيع من المعرفة والإيمان والعبودية، يعتبر عاملاً مؤهّلاً لأن يغشّيه الله برحمته اللامتناهية، فيمحو سيئاته، ثم يسمو به إلى مرتبة أرقى فيبدّلها حسنات، وأعظم بها من نعمة ورحمة، حيث يتغير مصيره الأبدي ويرفل بالسعادة الأبدية إلى جوار ربه المنعم المفضل بعد أن أزاح عن نفسه أسباب العذاب والضياع.