شهر رمضان المبارك. . تعزيز أواصر المحبة لإعادة العزّة الى المسلمين
|
*إعداد / بشير عباس
بسم الله الرحمن الرحيم
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }البقرة185 آمنا بالله
صدق الله العلي العظيم
كيف اصبحت الامة الاسلامية خير أمة اخرجت للناس وحملها ربنا تعالى مسؤولية الشهادة على الاخرين، فقال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"؟ ماهي عوامل القوة في هذه الامة؟ ثم؛ ماهي العوامل المضادة المتمثلة بعوامل الضعف التي اعترت هذه الامة بالفعل؟
هذا السؤال الجوهري يطرح نفسه كلما مررنا في محطة من المحطات الايمانية، ومن منعطف خطير من المنعطفات الحياتية.
ان جوهر القوة في الامة الاسلامية يكمن في العلاقة الثنائية بين الانسان والانسان الاخر، وبين الانسان و ربه، وبتعبير آخر هي ترسيم علاقة الناس بعضهم ببعض وفق قيم الحق، و وفق ارادة السماء و وفق العلاقة المثلى بين الانسان وبين الله تعالى، فبقوة الدفع في علاقة الانسان بالله وبسلامة السبيل في العلاقة بين الانسان وبين الله، وبأن الله تعالى هو الذي يهيمن على البشر، بكل ذلك تكون علاقة الناس بعضهم ببعض في اطار هذه الامة علاقة ربانية سماوية الهية علاقة، و تكون نموذجاً لتلك العلاقة التي لا بد ان تكون عندما يقدم الناس على ربهم ويدخلون الجنة باذنه.
يقول رسولنا الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم مرة: بان شهر رجب، شهر الله، وشعبان شهره و رمضان شهر الامة (شهر اُمّتي)، ولكنه مرة اخرى يقول: (قد اقبل عليكم شهر الله بالخير والبركة)، فكيف كانت الامة هي المحور في هذا الشهر وكان الله تعالى هو صاحب هذا الشهر؟، مرة يقول شهر الله ومرة يقول شهر الامة؟
بلى؛ ان هذا الشهر الكريم هو شهر الله ولكن كيف نعرف ان هذا هو شهر الله وكيف تكون علاقة الناس بربهم في هذا الشهر وماهي علامات تواصلهم مع الله تعالى؟
المؤمن بالله لا يظلم ولا يعتدي
كلما كانت علاقات الناس مع بعضهم مرسومة على أسس الهية وحسبما اراد الله تعالى، كانت علاقتهم به تعالى مستقيمة، فمن الذي يستطيع ان يدعي بانه مع الله؟ أو ليس الذي يعدل بين الناس ويقسط؟ أو ليس الذي يُحسن الى الناس ويبر؟ أو ليس الذي يخدم الاخرين؟ ألا يقول الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم : (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه)؟ وإذن؛ اذا كانت الامة الاسلامية قد صيغت صياغة الهية وكانت مؤطرة بصبغة الله، "صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ" (البقرة /138)، وكانت سائرة في طريق الحق وفي الصراط المستقيم، يومئذ نتأكد من سلامة علاقة الناس بربهم تعالى، بالمقابل لا يمكننا تصديق وتأييد من يدعي العلاقة بالله تعالى وهو يمارس العدوان والظلم مع الناس، لان ظلم الناس بعضهم لبعض يعد حجابا بينهم وبين ربهم.
من هنا فان العدل والقسط واقامة الحق في الارض هي علامات هذه الامة الرشيدة، ولذلك ربنا تعالى حينما يأمر بالصيام ويأمر بالحج والصلاة ويأمر بسائر الواجبات والفرائض، كما يأمر بسائر المستحبات والآداب، فانه يأمر بها في اطار العلاقة مع الناس فشهر الصيام شهر واحد و الناس كلهم يصومون في وقت واحد، والحج ايام معينة واشهر معينة ويحج الناس في وقت واحد، يحضرون عرفات والمزدلفة ومنى في ساعات معينة جميعا، ومن اقطار الارض، وكذلك الصلاة، افضل ما تكون حينما تكون جماعة وفي المسجد، واما الزكاة والخمس والحقوق الشرعية فهي قد أسست على اساس خدمة الاخرين والاحسان اليهم. فإذن؛ الاسلام ليس مجرد علاقة بين الانسان والله وانما علاقة مزدوجة بين الانسان والله من جهة، وبين الانسان والانسان الاخر، هذه العلاقة المزدوجة هي التي ترسم خارطة الطريق عند المسلمين وشهر رمضان المبارك احدى هذه المحطات، انه شهر الله وهو شهر الناس ايضا، بمعنى شهر الامة الاسلامية، ولذلك يقول النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم قبيل شهر رمضان (اتقوا الله ولو بشقة تمرة...)، أي اتقوا الله وادفعوا الى الاخرين من اموالكم ولو بمقدار شقة تمرة، ولذلك تجد ان المسلمين من اول التاريخ الى اليوم يحسنون الى بعضهم في شهر رمضان، واعرف ان بلاداً كثيرة لا يفطر الناس هناك الا على مائدة واحدة وفي المساجد او حتى في الطرقات حتى يوثقوا العلاقة فيما بينهم.
فرصة لإعادة الحسابات مع الآخرين
ان شهر رمضان المبارك يُعد محطة وفرصة إلهية لابد ان نغتنمها لاعادة حساباتنا من جديد، بل نعيد صياغة حياتنا، وتنظيم علاقتنا بالاخرين. ربنا تعالى يقول: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن"، انه كتاب العدل والحق والقسط وهو كتاب ينظم العلاقة بين الانسان والاخرين، وما بعث الله تعالى الكتاب بالحق الا ليقوم الناس بالقسط، بل ان محور العلاقة مع الله تعالى هي اقامة القسط، والله هو القائم بالقسط، وامر بان نكون قوامين لله شهداء بالقسط.
إذن؛ القرآن الكريم هو ذلك الكتاب الذي يرسم خارطة الطريق في كيفية علاقة الناس مع بعضهم، وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة السيد بالعبد وعلاقة الفقير بالغني وعلاقة العالم بالجاهل وعلاقة الجاهل بالعالم و... هكذا. ولذلك يربط ربنا تعالى بين شهر رمضان وبين نزول القرآن ويقول: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (البقرة /185).
لقد جاء القرآن الكريم وجاءت بقية الكتب والرسالات لكي يعيش الناس في هذه الدينا برفاهية ونعيم، ليعيشوا في ظل العدل والسلام والامن، ويعيش الناس بنفوس مطمئنة وعقول مستنيرة، ثم يكون ذلك تمهيدا لنيل الحياة السعيدة المكرمة في الاخرة، فالدنيا مزرعة الاخرة ونحن نزرع الخير في الدنيا لنحصده في الاخرة، أما الذي يزرع الشر في هذه الدنيا فلن يحصل في الاخرة سوى الشر. لذا نحن في هذا الشهر الفضيل بحاجة الى السلم والمحبة، وبحاجة الى التعاون على البر والتقوى، وان نصوغ حياتنا من جديد على اسس سليمة.
شهر رمضان والمواساة المفقودة
من المعيب جدا انك لا تسمع اخبار الازمات والكوارث والصراعات الدامية في امريكا اللاتينية او في الصين او في اوربا، إنما تسمعها في البلاد الاسلامية، وإلا ماذا يعني ان تكون التفجيرات على اعتاب شهر رمضان المبارك؟ والسبب هو وجود انسان مملوء بالغيض والحقد و الروح الطائفية المقيتة والكراهية فيأتي ويفجّر نفسه وسط أناس ذاهبين الى حال سبيلهم، أو يفجر سيارة او مركبة فيقتل العديد منهم، هذا ما نجده في باكستان، أما في الصومال هذا البلد الذي استقبل شهر رمضان المبارك مع موجة عنيفة من المجاعة والجفاف دفعت مئات الآلاف من النساء والاطفال والرجال الى النزوح في ارض الله بحثاً عن الماء والطعام للنجاة من الهلاك، بينما نجد مسلمين آخرين يجتمعون في بيوتهم او مساجدهم حول موائد الافطار والاسحار بكل هدوء وطمأنينة.
وفي البحرين نجد السلطات الحاكمة لا تتورع في هذا الشهر الفضيل عن قمع الناس واضطهادهم لا لذنب اقترفوه سوى انهم يطالبون بحقوقهم، بينما يصمّ النظام الحاكم في المنامة آذانه عن نداءات ومطالبات الكفّ عن هذه الممارسات القمعية.
لماذا نشهد الحروب واعمال العنف والدماء في البلاد الاسلامية خلال ايام شهر رمضان وفي غيره؟ هل لان المسلمين قد عرفوا اسلامهم بصورة مغلوطة ومشوهة؟ أم هناك سبب آخر؟ ثم أو لم يأمرنا ربنا تعالى ان ندخل في السلم كافة؟
ان الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية تدفع بالعديد من الاسئلة امامنا عن سبب وجود القرآن الكريم بيننا، وهو الكتاب المجيد الذي أنزله تعالى فيه حكم ما بيننا ويضم النظام المتكامل في الحياة، لكن مع ذلك نلاحظ غياب الاخلاق والاداب والقيم الاسلامية وبالذات في العالم العربي، والمثير حقاً ان العالم العربي ربما يعيش ظروفاً أسوء من غيره من البلاد الاسلامية، مع ان القرآن نزل فيهم وبلغتهم ويستطيعون ان يفهموه ويتدبروا فيه، لكن نجد انه بدلاً من ذلك يستخدم الحكام السلاح واجهزة التعذيب لفرض سيطرتهم على الناس ويلجأون الى الغش والخداع والتضليل، وإن هم قرأوا القرآن الكريم لوجدوا انه يؤكد في غير آية على زوال الطغاة والمتجبرين والظلمة، إنما يمهلهم ربهم حينا من الوقت ثم يكون جزاؤهم خزيا في الحياة الدنيا وفي الآخرة عذابا أليما.
لنتذوق حلاوة السلم والأمان
بامكان كل مسلم يؤمن بالله تعالى ويلتزم بفرائضه ويصوم شهره الكريم ان يجرب تذوق حلاوة السلم والأمان وهو يعيش في ضيافة الرحمن، وذلك من خلال إظهار الحب والودّ للآخرين، وافراغ القلوب من الاغلال النفسية والاحقاد والعصبيات والكلمات البذيئة واتهام الاخرين، وغيرها من الصفات السيئة والمذمومة التي من شأنها ان تقوّض اركان المجتمع، والتي تعد من اساليب وأحابيل الشيطان.
تعالوا لندخل في السلم كما امرنا الله تعالى، فهذه المحطة والتجربة التي تتكرر كل عام تجد فيها بالفعل أن كثيرا من الناس في شهر رمضان يتواصلون فيما بينهم، يصلون الارحام واذا كان البعض قد غضب او هجر الاخر يحاول في شهر رمضان ان يعيد علاقته الايجابية مع الاخرين، وفعلا تجد الناس يعيشون في اجواء روحانية الهية، فدعونا نطور ونستثمر هذه التجربة في انفسنا ثم نجعلها تجربة ناجحة.
على العلماء والخطباء والمؤمنين في كل مكان ان يوصي بعضهم بعضاً بالتدبر في القرآن الكريم خصوصا في هذا الشهر. علينا أن نتدبر في القرآن ونفهم مضامين الآيات التي اوردناها في بداية الحديث ونحاول ان نطبق بعضها في انفسنا وواقعنا لعل الله يرحمنا وينزل علينا روحاً من لديه، ونسعى لأن نتوحد ويكون في ما بيننا سلام و وئام، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، و نوصي بالخير و نوصي بالصبر وبالحق، نوصي بعضنا بعضا لما فيه صلاح هذه الامة.
|
|