الأخوة في القرآن الكريم
|
* الشيخ عبدالجليل المكراني
إنّ من بين أهم المبادئ والقيم الإنسانية التي أكّد عليها القرآن الكريم في العديد من آياته الكريمة، وجاء التأكيد عليها من قبل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، والإمام علي والأئمة من بعده عليهم السلام هو مبدأ الأخوة في الدين، فإن لم يتحقق الاتحاد فيه فالأخوة في الخلق والإنسانية. وهو المبدأ الذي ثبته أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته الشهيرة الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر: (... واعلم ان الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق). وهذا إنّ دلَّ على شيء فإنّما يدلّ على عظم مكانة وأهمية هذا المبدأ في السير التكاملي للإنسان في الحياة الدنيا، والذي تنعكس آثاره في الحياة الدنيوية والآخروية، فإنّ الإنسان دائماً وأبداً بحاجة إلى أبناء نوعه في البناء والإرشاد والتوجيه والتعاون، سواء قلنا بالنظرية المشهورة (الإنسان مدني بالطبع)، أم بنظرية العلامة الطباطبائي (رحمه الله) القائلة: (الإنسان مستخدم بالطبع)، فإنّ كلا النظريتين يوضّحان لنا بشكل جلي مدى حاجة الإنسان إلى أبناء نوعه في الإعمار ومواصلة الحياة في الدنيا واستمراها.
ولكن ما بيّنه القرآن الكريم حول هذا المبدأ الفطري عند الإنسان يكمن في دوره الكبير في التكامل و وصول الإنسان إلى سعادته الكبرى في الدارين، وعليه ينبغي على الإنسان الواعي أن يسعى لتحقيق كل ما به كماله وسعادته، وأن يكافح ويجاهد لدفع كل ما من شأنه أن يحدّ من حركته التي توصله إلى كماله المطلوب. وبما أنّ الفرقة والاختلاف من القيود والموانع التي تحول دون وصول الإنسان إلى هدفه في سيره التكاملي، فنجد القرآن الكريم يدعو دائماً إلى الإسراع في حلّ النزاعات والخلافات المؤدية إلى زرع الفتنة والفرقة بين المؤمنين، وهو بدعوته هذه يكون داعياً إلى إيجاد حياة سعيدة وهنئية يسودها الأمن والاستقرار والطمأنينة والمحبّة والأخوة في الدين والخلقة.
وهذا ما سنتعرض له من خلال جولتنا السريعة في مطالعة ما جاء في ذلك من آيات الذكر الحكيم، علّنا نقتبس منها نوراً لأنفسنا، ورشاداً لعقولنا، وفائدةً لأبناء جلدتنا وإخواننا في الدين. وقد كان من بين تلك الآيات الداعية إلى تفعيل هذا المعنى، قوله تعالى: "إِنّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات /10) .
وقبل التعرّض إلى ذكر معاني الأخوة في القرآن الكريم نشير بصورة موجزة إلى أصل لفظة (الأخ) ومعانيها الحقيقية والمجازية في اللغة:
جاء في اللغة بأنّ الأخ هو المشارك لك في الولادة من طرفي الأب والأم، أو من أحدهما أو من الإرضاع، بل كل مشارك لك في العشيرة، أو في الدين، أو العقيدة، من الكفر والإيمان، والحقّ والباطل، والهدى والضلالة.
معاني الأخوة في القرآن الكريم
تكررت كلمة الأخوة واشتقاقاتها في القرآن الكريم ست وتسعين مرّة، في ثلاث سور من سوره الشريفة، لكنّها تحمل معاني مختلفة، منها:
المعنى الأول: أخوة النسب. وتطلق على الأخوين أو الإخوة الذين ولدوا من أب واحد وأم واحدة، كقوله تعالى: "فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ" (المائدة: /2). أو من أب واحد دون الأم، وكذا العكس أي من أم واحدة دون الأب، والأول من قبيل قوله تعالى: "وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لّكُم مِنْ أَبِيكُمْ" (يوسف /58ـ59).
المعنى الثاني: أخوة الرضاعة. من قبيل قوله تعالى: "وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرّضَاعَةِ" (النساء /4)، إذ الآية الكريمة صريحة في دلالتها على تحقيق مبدأ الأخوّة الذي يدعو إليه الدين الإسلامي، لذلك ترتّب عليه مجموعة من الأحكام الشرعية ذكرت في محلّها.
المعنى الثالث: أخوة الدين والعقيدة. وهذا المعنى من الأخوّة هو الميزان في الأخوّة الحقيقية؛ فإنّ أخوّة النسب ربما تنقطع بمخالفة الدين، بينما أخوّة الدين لا تنقطع وإن لم يكن هناك نسب. وهذا المعنى من الأخوّة يحمل أنواعاً متعددة تربط الإنسان بالآخرين بنوع من الأخوّة المترتب على مجموعة القيم والمفاهيم التي تحتم عليها العقيدة والدين، والآيات الكريمات تشير إلى كثرة هذه المفاهيم. قال تعالى: "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً" (آل عمران /103)، بمعنى أنّه تعالى ألّف بينهم بأخوّة الإيمان والإسلام التي هي إحدى نعمه جلّ وعلا. وقال تعالى: "إِنّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات /10)، إذ في الآية إشارة إلى اجتماع المؤمنين على الحقّ وتشاركهم في الصفة المقتضية له. وقال تعالى: "فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (التوبة /11)، وهذا المقطع من الآية الكريمة صريح في تحقيق معنى أخوة الدين عند تحقق ما يقتضي ذلك. وقال تعالى: "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً" (هود /50)، وكذلك قوله تعالى: "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً" (هود /61)، و: "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً" (هود /84)، فإنّ في جميع هذه الآيات جاءت الأخوّة حاملة لمفهوم الأخ بكونه أحد أفراد قومه وعشيرته، فإنّ هوداً وصالحاً وشعيباً كانوا إخواناً لأبناء أقوامهم وعشائرهم، كما ورد ذلك عن الإمام علي بن الحسين في (تفسير العياشي) ج2- ص20.
وبالجملة: إنّ المستفاد من الآيات الكريمة كون الأخ هو المشارك لغيره؛ إمّا تكوينياً في الولادة، وإمّا تشريعاً كالأخ من الرضاعة، وإمّا لسنّة اجتماعية ككونه من العشيرة أو البلد. ولقد كان العرب يسمّون الملازم للشيء أخاً له، فيقال: أخو العرب، وأخو يثرب، وهكذا. وإمّا للمشاركة والمشاكلة في مفاهيم آخرى كالمودة والصلاح وتشابه الأعمال.
نماذج من الأخوّة في العقيدة والدين
قال إمام الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (الناس إخوان، فمن كانت أخوّته في غير ذات الله فهي عداوة؛ وذلك قوله تعالى: "الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ المُتّقِينَ" (الزخرف /67).
إنّ أخوّة العقيدة هي الأخوّة التي أمرنا بها؛ لأنّها خالصة لذات الله عزّ وجل، فهي ليست كأخوّة النسب والعشيرة أو العائلة التي يتفآخر بها الناس بعضهم على بعض. وكل أخوّة أو علاقة ووشيجة لم تبنى على أساس العقيدة فإنّ مصيرها الزوال والانقطاع، لذلك أثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسلمان المحمدي رابطة لا تنطقع حينما قال: (سلمان منا أهل البيت)؛ لأنّه قصد أهل بيت العقيدة الحقة، فصار مرتبطاً بأهل هذا البيت بهذه الرابطة.
ألا تلاحظ أنّ الله جاء بالبشر متفرقين في الأنساب والألوان والأوطان! ولكنّ الدين والعقيدة هما اللذان جمعا الناس في أخوّة واحدة رفعت هذه التفرقة والاختلاف، فالناس في العقيدة إخوة، وهذا ما دعا إليه الدين الإسلامي الحنيف من جعل الوحدة والائتلاف اجتماعاً على العقيدة، وبذلك قد ألغى جميع الفوارق من علو النسب أو البلد، وغير ذلك، بل قال: "إِنّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ". فالحب والتآخي في العقيدة ليس لأجل المصالح الدنيوية التي تتصرم مع زوال المصلحة. وهذا ما أكده أمير المؤمنين (عليه السلام) في (نهج البلاغة) حيث يقول: (لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني).
وإنّما تقدمت أخوّة العقيدة وفضلت على غيرها لأجل ما فيها من الميزات والصفات التي لم تتوفر في غيرها من أواصر وروابط، إذ أخوّة العقيدة هي العون عند العوز، وصد العدو ودفع الحاجة. وهذا ما أكدته رواية حفص البختري، قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فدخل عليه رجل، فقال لي: تحبه...؟ فقلت: نعم، فقال لي: ولم لا تحبه وهو أخوك وشريكك في دينك، وعونك على عدوك، ورزقه على غيرك).
عوامل تقوية الأخوّة الحقّة
هنالك عديدة تقوي أواصر الأخوة بين المؤمنين نذكر منها:
أولاً: الإيثار وبذل النفيس.
إنّ الدين الإسلامي هو الدين القيّم الذي بني على روح الإنسانية والتعاطف والمواساة والتحابب والتواصل، حتى بذل الغالي والنفيس من أجل العقيدة وإحياء أخوّتها، ولذلك يقول صادق أهل البيت (عليهم السلام): (اتقوا الله وكونوا إخوة بررة، متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا وأحيوا أمرنا).
ومن إحدى وسائل تثبيت وتحقيق هذه الأخوّة بذل النفس والإيثار بها، كما هو فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين آثر على نفسه وبات في فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة خروجه من مكة، ولقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة /207).
ثانياً: النصح المتبادل.
إنّ من الأمور التي تُعدّ من ثمرات هذه الأخوّة أن يكون المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في (نوادر الراوندي)، بإسناده عن موسى بن جعفر(عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، ينصحه إذا غاب عنه، ويميط عنه ما يكره إذا شهد، ويوسع له في المجلس).
ثالثاً: العفو والصفح.
إنّ العفو عن زلاّت الإخوان وهفواتهم والصفح عن الإساءة غير المقصودة، لهو خلق رفيع، فالمؤمن الذي يكظم غيظه، وينتحل الأعذار لإخوانه، ويحسن الظنّ بهم، ويختار من الكلمات ما يستلّ السخيمة والضغائن من قلوبهم، لهو مؤمن حقّ الإيمان.
ومن جميل ما ينقل في هذا المجال في التاريخ من القصص ما ورد في ابن السماك مع أخ له في الله، بأن قال لابن السماك: (الميعاد بيني و بينك غداً نتعاتب)، فرد عليه ابن السماك: (بل الميعاد غداً بيني وبينك نتغافر)، وهذا مصداق قوله تعالى: "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (الأعراف /151).
وفي الختام ينبغي على كل فرد منّا أن يتمسّك بالأخوّة الحقّة تمسّكاً قوياً؛ لأنّه ربما يصعب علينا حفظ هذه الأخوّة الإيمانية وأداء حقّها تجاه إخواننا، وفي الوقت نفسه قد نُهينا عن المقاطعة؛ لأنّها تجعل حجاباً بين الإنسان وربّه، بل بينه وبين الجنة، حتى جاء في الحديث الشريف: (إنّه يجعل سبعين ألف سور، غلظ كل سور مسيرة ألف عام، ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام).
هكذا شدّد الله تعالى على المحافظة على هذه الأخوّة، وبيّن عظمتها ومقدار فضلها ونهى عن التفريط فيها، فما علينا إلاّ التمسك بها، فهي المنقذ يوم الملتقى.
|
|