قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

(الثقافة) .. بين إصلاح الفساد وتمرّد السلوك
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *كريم الموسوي
الثقافة مفقودة... ومستوى الوعي متدنّي... هكذا مفردات نسمعها تتردد على الألسن في أوساطنا الاجتماعية والثقافية، لكن هل معنى هذا أن لا وجود للثقافة أساساً؟ وهل يعقل أن يعيش المجتمع دون ثقافة؟! فالمعروف أن لاحياد في هذه الحياة، (ولا توجد منطقة وسطى بين الجنّة والنار)، إذن، بفقدان الثقافة السليمة المستوحاة من القيم السماوية الحقّة التي تدعو الانسان الى السمو والتكامل وكل القيم الاخلاقية والانسانية، لابد أن تحلّ محلها الثقافة السقيمة المستوحاة من الغرائز والنوازع النفسية التي لايمكنها أن تستقيم مع الانسان، فنراها تأخذها ذات اليمين تارةً، وذات الشمال تارةً أخرى.
*معوّقات أمام الإصلاح:
بما إن أمر الثقافة يعود الى ذات الانسان ولا يعود الى عوامل خارجية، فانه مطالب دائماً لأن يبادر للإصلاح الداخلي للوصول الى واحة الثقافة الصحيحة والأصيلة، ومن دون ذلك لايتوقع حصول التغيير المفاجئ والعوامل الخارجية التي تخدمه في عملية التغيير، بل ربما تعكس عليه القضية، حيث تعمل على تكريس الثقافة الخاطئة في واقعه الى درجة ان يكون عاجزاً عن الاعتراض فضلاً عن التغيير، وأول خطوة على هذا الطريق إدراك حقيقة مهمة، وهي الدور السلبي للثقافة الخاطئة في الحياة، وانه جزء من هذه الثقافة، بل ان افكاره واقواله جزء من سلوكه، وبالتالي سيحاسب على سلوكه الذي عادةً يكون له دور في ظهور تلك الثقافة الخاطئة وبالنتيجة وجود مجمل الأوضاع الفاسدة والشاذة.
في هذا الطريق يصطدم الانسان ببعض المعوّقات التي تقعده عن المضي في طريق تغيير الواقع الثقافي الفاسد، نذكر منها فكرتين تبريريتين:
*التبرير الأول :
يشيع البعض بضرورة الفصل بين الدين والسياسة، وبين عالم الدين والمسؤول الحكومي، وإن على عالم الدين أن يختار؛ إما الانقطاع في الحوزات العلمية و حضور المجالس والمحافل الدينية، وإما التخلّي عن ذلك والخوض في السياسة والاحزاب والمفاهيم السياسية الحديثة مثل (الديمقراطية) وغيرها، وهي طبعاً، فكرة قديمة – جديدة، استوردها البعض من أوربا المتبرئة من المسيحية والمتبنية للعلمانية كخيار وحيد ولا مفرّ منه بعد فشل الخيار الديني لديهم، بينما الحال مختلف تماماً في البلاد الاسلامية حيث لايمكن بأي حال من الأحوال فصل عالم الدين وإمام الجماعة أو الخطيب عن المجتمع وحياة الانسان.
وبهذه الطريقة يكون من السهل تكريس وتمرير مختلف الظواهر الثقافية في المجتمع دون رقيب وحسيب، حتى وإن أسفرت عن تدمير كيان الأسرة وضياع مستقبل الشباب وتكبيل العقول والأذهان بالغرائز والاثارات الرخيصة. نعم؛ قد يكون هنالك حديث عن معالجة ومتابعة بعض الظواهر السلبية التي تطفو على صعيد الاعلام، ويسمعها الناس على أنها جديد العصر، لكنها لا تعدو أن تكون عملية قتل انسان ثم السير خلف جنازته، و مثالاً لا حصراً، نرى أسواقنا مشحونة بمستحضرات التجميل النسائية المختلفة المناشئ العالمية والأقليمية! وفي نفس الوقت نشهد وبكل وضوح حملات الدعاية والترويج لهذه المستحضرات، لكن ربما غاب عن الشركات المصنّعة حساب الحقل غير المتوافق مع حساب البيدر! فهل من تناسب بين الكميات الهائلة من هذه المستحضرات وأنواعها وأشكالها، وبين عدد النساء المتزوجات في بلادنا الاسلامية؟ والحقيقة ربما لم يغب عنها وهي تنفق مئات الآلاف من الدولارات لتكسب الملايين، فارقام الطلاق في تصاعد وهي منشورة في جميع وسائل الاعلام، إلا في حالة واحدة وهي المخرج الحقيقي، بأن التعويل يكون على جميع بنات حواء، ربما من بلوغ سنّ التاسعة والعاشرة وحتى ما شاءالله، ولتبق الفتاة عزباء غير متزوجة، فلا ضير من شراء واستعمال مستحضرات التجميل!!
لكن بعد هذا كله، نسمع في الجانب المقابل صيحات الاستنكار ودعوات الترشيد والإصلاح والعودة الى الطريق الصحيح، والسبب هو انتشار العلاقات المحرمة، وازدياد حالات الاغتصاب، أو ما يسمى في الاعلام بـ(التحرّش الجنسي)، وأيضاً ارتفاع أرقام حالات الطلاق، وهي النتيجية والمآل الأخير للثقاقة الفاسدة في المجتمع غير المسؤول.
*التبرير الثاني:
هل هنالك علاقة بين السلوك العام والالتزام الديني...؟!
هذا التساؤل تطرحه دائماً أطراف عديدة وتحاول ترويج الأجابة بالنفي في مجتمعاتنا لوضع العصا في عجلة التغيير الثقافي الشامل، وتتظافر جهود ثقافية ونخبوية مع مساندة سياسية – حكومية في بعض البلاد الاسلامية، للإيحاء بان السلوك والتصرفات الفردية إنما هي حق مشروع وحدود يمتلكها الانسان لنفسه لايجوز المساس بها مهما ضمّت خلفها من ظواهر شاذة وخطيرة على الانسان نفسه وعلى المجتمع أيضاً، أما الدين والايمان فلا بأس – حسب تصور هؤلاء- من أن تكون طقوساً وممارسات في أماكن ومناسبات معينة، وتتوقف عند حياة الانسان وتفاصيل سلوكه وتصرفاته في الحياة.
لنفترض أن السلوك الانساني يكون بعيداً عن التعاليم الدينية، فهل سيجلس الانسان دون حركة في حياته؟!
لابد انه سيفكر ويتحرك ويتخذ القرارات ويمارس مختلف الاعمال بدوافع وغايات أخرى، شاء ذلك أم أبى، وما نلاحظه اليوم في مختلف بلادنا الاسلامية، من التخبط العجيب في السلوك والثقافة، وحالة ضياع الهوية، كلها نتاج واضح لانفلات السلوك العام من النهج الثقافي القويم الذي لا اعوجاج فيه.
والقضية المهمة التي نجد من الضروري تسليط الضوء عليها في هذا السياق، هي غفلة الكثير ممن يتذوقون الانفلات والتحلل من الالتزامات، من أنهم بخروجهم من حصن الدين، يقعون في شرك الثقافات المستوردة والمشبوهة، فكيف يضمن البعض عدم تعارض سلوكه مع ما يحمله من انتماء للدين والعقيدة؟ وكيف يضمن عدم سقوطه في مستنقع الشرك بالله تعالى، عندما يعقد الولاء لثقافة ونهج لا صلة له بالسماء ولا بالتعاليم السماوية المنزلة على الأنبياء وخاتمهم نبينا الأكرم (ص)؟ بل هم يقعون في المغالطة، فهم يصفون من يلتزم بالتعاليم الدينية بانه مخالف للأجواء العامة أو يسبح عكس التيار ويتعارض من الأعراف السائدة، بينما هم يطبقون ما لم ينزل به الله سلطاناً، وطالما حذرنا القرآن الكريم من هكذا عاقبة ومآل، جاء في الآية (45) من سورة المائدة " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، وفي آيتين أخريين يصف الله تبارك وتعالى أولئك بانهم (الكافرون)، و(الفاسقـون).
*عاقبة الثقافة الفاسدة
هل ينتهي الأمر الى هذا الحد؟ بالطبع كلا، لأن في هذه الحياة سنناً وقوانيناً لا تحيد أبداً، فالبذرة تنمو في الارض وتثمر من صنفها، فلا تعطي بذرة القمح خضاراً، هذه الحقيقة يثبتها القرآن الكريم: " َالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ" (الأعراف/ 58).
وقبل أن نسلط الضوء على الواقع الحاضر، من المفيد الاعتبار بدروس التاريخ علّنا نهتدي الطريق، فلم يمضي أكثر من عامين على واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين (ع) في كربلاء بتلك الصورة المفجعة، وما جرى على أهل بيت الرسالة من سبي وإذلال أمام جبروت الطغيان الأموي، حتى وقعت في مدينة رسول الله (ص) ما لم تشهده البلاد الاسلامية آنذاك منذ تأسيس النبي الأكرم دولته وحضارته المجيدة، فقد أمر يزيد بن معاوية باستباحة المدينة ثلاثة أيام بعد قمع الانتفاضة التي اندلعت ضد الحكم الأموي، وبعد قمع الانتفاضة، قرأ قائد الجيش الأموي مسلم (مسرف) بن عقبة كتاب يزيد يطلب من أهل المدينة الاقرار صاغرين بانهم عبيد وإماء له، وهكذا بجرة قلم، أصبحت فتيات ونساء المسلمين الساكنين في جوار مرقد النبي الأعظم، مباحات لجنود الشام، ففعلوا ما فعلوا !
ونترك التفاصيل لكتب التاريخ ولمن يريد التفاصيل مراجعتها، ونتوجه الى الإمام زين العابدين الذي كان حبيس الدار وهو يسمع بما يجري يعتصره الألم والأسى، وقد أمنت عنده المئات من نساء المسلمين، حيث علّق على هذه الواقعة المنكرة بانها عقاب من الله عزّ وجل على تخاذل أهل المدينة وقعودهم عن نصرة إمامهم الحسين ورضاهم بالحاكم المتهتكك والضال يزيد، فكان أن سلّط الله عليهم الظالم بظلمهم، كما يقول الحديث القدسي: (الظالم سيفي انتقم به وانتقم منه )، ونُقل عن الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء قوله: (والله لوهتكت حرمتي لاتبقى حرمة لاحد).
وحتى لا تتكرر المآسي في هذا البلد أو ذاك، علينا الانتباه الى أمر الثقافة والفكر، وأن لا نستسهل الأمر، فهي عصب الحياة وداينمو السلوك الانساني، وإلا ليس من المعقول ولا المنطقي أن نعيش دائماً حالة التأسف على الخسارة والضياع، أو حالة الخوف من القادم المجهول، فلا راحة واطمئنان ولا سعادة وتقدم، في حين نمتلك المواد الخام لها بين أيدينا وهي تراثنا الاسلامي الغني بالمفاهيم والتعاليم الاخلاقية والدينية الهادفة الى الخير والسعادة للانسان.