قيمة العراق في إنسانه
|
سالم مشكور
لم أجد في دول عديدة اقمت فيها أو زرتها خلال ثلاثة عقود من الهجرة، من زار العراق او عمل فيه من رعايا تلك الدول الاّ ويتملكه الحنين الى العراق. وكثير منهم تخنقه العبرة وهو يتذكر سنوات قضاها في العراق بحثا عن رزق او سعيا وراء علم في الجامعة أو الحوزة العلمية. في لبنان دخلت بيوتا للبنانيين فوجدت العادات العراقية هي السائدة، من طعام وشاي على طريقتنا. كما ان الاب والام والجدة مثلا يصرون على التكلم بما تبقى لديهم من اللهجة العراقية. وفي دول عدة رأيت العديد من ابنائها يقصدون مطاعم عراقية تقدم الرز والمرق والكباب العراقي "المليء بالدسم" طلبا للقاء عراقيين والتحدث معهم فضلا عن تناول الطعام الذي يقولون انه يعيدهم الى أجواء العراق. لا يشمل ذلك العرب فقط، من سوريين ولبنانيين ومصريين وخليجيين، بل الكثير من المسلمين وغيرهم، من طهران الى واشنطن. ففي العاصمة الاميركية كثيرا ما يتنبّه أشخاص في مقهى الى حديث بين عراقيين فيبادرون الى تقديم انفسهم وإخبارهم بانهم عملوا في العراق وأنهم أحبوا هذا البلد جدا.
ترى ما الذي أحبه هؤلاء في العراق؟ ولماذا كل هذا الانشداد اليه من جانب من عاشوا فيه أو زاروه كثيرا؟ هل في العراق طبيعة خلا ّبة لا توجد مثيلتها في دول أخرى؟ أم أن بلدنا يمتاز تاريخيا بـ "تطور" الخدمات والاتصالات والمواصلات بحيث تجعل الحياة فيه نعيما لا ينسى؟ أو ان العراق تمتع خلال العقود الماضية بسقف عال جدا من الحريات جعله واحة وسط صحراء الكبت الاقليمي؟ او تمتع بقوانين استثمار راقية وتسهيلات ضريبية لا نظير لها يتغنى بها كل مستثمري الارض ؟. طبعا لا شيء من هذا ابدا.
عندما يبث الاخرون شوقهم وحنينهم الى العراق يبرز العامل الوحيد لهذا الشوق: الانسان العراقي. فهؤلاء لا ينسون خصال الشخصية العراقية من كرم ونخوة وطيبة وذكاء وخلاّقية. يتحدثون، خصوصا أولئك الذين تعود ذكرياتهم الى عقود الستينات والسبعينات، عن هذه الخصال بتفاصيل وشواهد لا تنتهي.
وحيث ان نقطة تميّز العراق تاريخيا تكمن في إنسانه، فإن التدمير الذي تعرض له استهدف هذا الانسان بقوّة عبر حروب مدمرة للنفوس والاخلاق والآمال قبل الاقتصاد والعمران، وسياسات مسخت الكثيرين و أدت، في أحسن التعابير، الى مصالحة بين الحق والباطل ،والحرام والحلال، والصدق والكذب، والفساد والنزاهة، وتداخلت فيما بينها أحيانا لدرجة غريبة. فحتى المجرم الذي يقتل بالاجرة ربما يتحول الى كتلة من النخوة والشهامة اذا ما إستدعى ذلك موقف ما !. وإذا كان هذا المثال يشمل شريحة ضيقة، فإن الظاهرة الاوسع هي الانسان العراقي المتعب نفسيا، السلبي في نظرته للآخر والمستقبل، الاقصائي في سلوكه، المتراجع في ذوقه، الاتكالي في حاجاته، الى باقي المواصفات والسلوكيات التي قد يستوي فيها من بقي في عمق المعاناة مع من غادر العراق لفترات، فللغربة ايضا مفاعيل سلبية في نفوس الكثيرين.
هل يمكن إعادة بناء العراق قبل إعادة بناء إنسانه؟ وهل أن إعادة البناء هذه تتم بالوعظ والارشاد فقط أم ،قبل ذلك، بتوفير سبل الحياة الكريمة لتسلب منه ذريعة السلبية والخطيئة؟
|
|