قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
سنوات تمضي ووعود تطلق و حقوق الطفولة ضائعة
الطفل العراقي .. بين دور الأب المُعيل و حلم التعليم و السعادة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة تحقيق: نزار علي
كثيرة هي الوعود التي أطلقها الساسة في العراق في إنقاذ الشعب العراقي من مأزق الفقر، وإزالة العوامل المؤدية الى شيوع هذه الظاهرة، وبينما يتواصل الحديث في وسائل الاعلام وفي أروقة الساسة وحتى بين أوساط المجتمع المدني، إلا أننا نشهد حتى اليوم عوائل لا تزال تعيش تحت خط الفقر وتمتهن التسوّل في الشوارع وعلى الأرصفة العامة.
وما يثير الاهتمام الهواجس، هو إقحام الأطفال في هذا الطريق، ربما يجدونهم الكبار الوسيلة الأقرب والأسهل لمعالجة ما بهم من عوز وقلّة ذات اليد في ظل اقتصاد لم يتقن بعد التقسيم العادل للثروة، وتوفير فرص العمل وإنعاش دخل الفرد وغيرها من الخطوات البناءة.
فأينما ما يدير المرء طرفه يجد أطفالاً صغاراً ربما تتراوح أعمارهم بين السادسة والرابعة عشر من العمر، وهم موزعون في الشوارع وفي الأسواق والأماكن العامة، بين مهرول بين المتبضعين لتسويق أكياس النايلون لمن زادت مشترياته، أو الجالسين أمام قناني البنزين ينتظرون أصحاب الدراجات النارية والسيارات، أو من يدفعون العتلات لنقل البضائع، أما ما لا تراه العين في المحلات وأماكن العمل المختلفة، فهو خافٍ وأعظم، لكن الأنكى من كل ذلك، مشاهد التسوّل على الطرقات واستدرار عطف الناس.
فمن أين جاء هؤلاء الأطفال على أطراف الكثير من شوارع المدن اليوم حتى لجأ الأطفال من أجل الى كسب لقمة عيشهم الى استرقاق دموع المارة، فيما توجّه الكثير منهم وفي سني الأربعة عشر عاماً فما دون إلى العمل والابتعاد عن المدرسة والتعليم، ويقعوا فريسة لظاهرة عمالة الأطفال في المناطق الصناعية والأسواق بعد ازدياد معاناتهم بسبب الحروب وضعف الاقتصاد وتردي الأوضاع الأمنية.
ومحافظة كربلاء المقدسة كبقية المحافظات العراقية أنجبت هي الأخرى خلال الأعوام الأخيرة الكثير من حالات عمالة الأطفال، لأسباب عديدة وكثيرة، ربما لا نجدها في سائر المدن العراقية. هذه الشريحة الضعيفة التي تركت مدارسها وحقّها المشروع في الحياة لتمارس العمل حتى لا تواجه شبح الفقر المرعب، وليس همّها إلا لقمة العيش التي تؤمنها لعوائلها.
بات من المعروف الاسباب والعوامل التي دفعت بهذه الشريحة الناعمة والواعدة لأن تهجر الدفء المنزلي والتربية والتعليم المدرسي الى حيث المجهول في الشوارع، أما اليوم فلا مجال أمامنا إلا البحث عن الحلول لمعالجة هذه الظاهرة و وضع حدٍ نهائي لها بشكل أو بآخر.
*أطفال، لكنهم اصحبا غيرة!
أم هاني - 40 عاماً- مواطنة من محافظة كربلاء فقدت زوجها جراء اغتياله على يد إحدى العصابات قبل ثلاث سنوات وقد ترك لها ولدين في عمر الورود؛ تقول عن مصير عمالة ولديها في حديثها لـ (الهدى): (فقدت معيلي وأبا أطفالي الذي كان يعمل سائقاً وقد اغتالته إحدى عصابات التسليب وسرقت سيارته، وتركنا نحن دون أي شيء نعيل به أنفسنا مما اضطررت إلى أن أعمل في محل لبيع الملابس في المدينة لتوفير لقمة العيش وبعدما كبر أولادي وصاروا في عمر العشر سنوات خرجوا هم أيضاً للعمل من أجل مواجهة هذه الحياة الصعبة، ولكن للأسف فالولدان قد تركا المدرسة وصارا يعملان في السوق لتوفير لقمة العيش وإبقائي في المنزل لإدارته).
ومشهد آخر من المعاناة العراقية، حيث هنالك المواطنة أم عبير - 35 عاماً- وهي أم لبنتين و ولد، فقد اضطر ابنها الأصغر (عماد) لتحمل أعباء توفير لقمة العيش بدلاً عن أبيه، وهو ابن الإثنى عشر سنة، بعدما توفّي والده جراء إصابته بمرض عُضال، وأصبح (عماد)، وهو في مرحلة المراهقة، وهي أصعب وأدق المراحل في حياة الانسان، أحد الأطفال الذين يجوبون الشوارع ويعملون منذ طلوع الفجر حتى المغيب، لكن ما هي المهنة التي يعمل بها؟ إنها ليست في محل تجاري أو ورشة صناعية أو مهنة معترف بها، إنما عمله هو أن يجوب أكداس النفايات في الأحياء السكنية ويجمع عبوات المشروبات الغازية ويبيعها على تجّار هذه المهنة التي طرأت على العراق مؤخراً، مقابل شيء من المال يأتي به إلى البيت ليلاً ليدفعه إلى أمه.
وفي أثناء تجوالنا في مركز المدينة المقدسة شاهدنا الكثير من الأطفال الذين يعملون عتّالين، ويتسابقون على حمل حقائب المسافرين والزائرين في عرباتهم ويدفعونها بقوة ربما تقل عما تتطلبه العربة المشحونة بالبضائع والحقائب، فيساعد بعض المارة من أصحاب النخوة والحمية عندما تعترض عجلات العربة أحجار أو عقبات في الشوارع أو الأزقة، تلك الأيدي اللطيفة التي يفترض أن تكون على مقاعد الدراسة، نجدها تكدّ وتكابد خشونة الشارع والأسواق، لتدفع ثمن أخطاء وحماقات لا دخل لهم بها بالمرة.
*يحلم في اللّعب والتعليم!
وفي حديثنا مع بعض الأطفال العاملين في الشوارع والأسواق، أبدى الطفل أياد محمد - 8 سنوات- عدم ارتياحه وهو يقوم ببيع المناديل الورقية عن تقاطع (شارع الضريبة)، ويقول: (أخرج من الصباح الباكر من البيت وأحمل بضاعتي على ظهري لأقف على الرصيف وأبيع المناديل الورقية على أصحاب السيارات و المارة، وأضطر في أكثر الأحيان للتوسّل بالناس لشراء بضاعتي البسيطة من أجل أن أجني المال وأعطيه إلى أبي المقعد في البيت لسدّ احتياجاتنا اليومية).
أما الطفل قاسم جبار - 13 سنة- والذي يبيع أكياس النايلون في أحد أسواق مركز مدينة كربلاء يقول: (يعمل أبي في بيع الخضروات في السوق ليقوم بتوفير حاجات أسرتنا المتكونة من سبعة أفراد، وقد اضطررت أن أعمل في فترة الصباح لبيع أكياس النايلون والذهاب إلى المدرسة في فترة المساء، لديّ أحلام كثيرة أريد تحقيقها، بداية من حقّي المشروع في اللعب كطفل! و وصولاً إلى تحقيق أحلام المستقبل والتي أتمنى أن تكون مثل إكمال المدرسة ودخول الجامعة أسوة ببقية أفراد المجتمع، وبعدها أستطيع أن أتكفل بمعيشة جميع أفراد أسرتي وأحقق لهم أحلامهم).
*حلول بين النظرية والتطبيق
إلا إن معاناة الأطفال لا تنتهي عند ميدان العمل والتوقف عن ركب التعليم، إنما يترصدهم خطر داهم آخر لا يقل خطورة عن الأول، وهو صديق السوء الذي لا يرحم ونظرة الناس من ذوي النفوس الضعيفة لهم واستغلالهم، وذلك بسبب مبيت العديد منهم في (الخانات) والأماكن العامة، لوجود عوائلهم وأسرهم في مناطق أخرى بعيدة عن كربلاء المقدسة، فهذه حقاً مأساة لا تنتهي وستولّد جيلاً ضعيفاً أخلاقياً وثقافياً وعلمياً كما يؤكّد ذلك الناشط في حقوق الإنسان (سيف السلامي) الذي حدثنا قائلاً: (تُنتج ظاهرة عمالة الأطفال جيلاً من المشرّدين الذين يجدون الشارع والرصيف وأصدقاء السوء بيئات حاضنة لهم وبذلك فإن الانهيار والعجز هما ما يصيبان المجتمع في المستقبل كون هذه الشريحة تشكل أساس بناء المجتمع ولابدّ من احتضانها ورعايتها).
وعن نسبة أعداد الأطفال الذين يعملون في شتى المجالات مقابل جني المال وإعالة عوائلهم، وانتشار هذه الظاهرة يضيف السلامي، (إن نسبة العمالة بين صفوف الأطفال في العراق بدأت بالارتفاع بشكل ملحوظ منذ حقبة الثمانينيات، مرورا بالحصار الاقتصادي الذي عاشته البلاد في التسعينيات، و وصولا الى مرحلة ما بعد الحرب الأخيرة عام 2003 والتي مازالت تبعاتها متواصلة).
ويتابع حديثه: إن انشغال الرجال بالحروب المتواصلة ومقتل الكثير منهم، فضلاً عن سنوات الحصار الطويلة، دفعت بالكثير من الأسر الى تشغيل أبنائها للحصول على عوائد مالية تعينهم في الحصول على متطلبات حياتهم اليومية).
أما الباحثة الاجتماعية مها الموسوي، من محكمة كربلاء فتؤكّد: (على إن الأطفال يمتهنون أعمال خطرة لا تناسب قدراتهم البدنية مثل العمل في ورش الحدادة وتصليح السيارات أو البناء، علماً إن السن المسموح به للعمل وفقاً للقانون يبدأ من (15 عاماً) على أن لا يكون عملاً شاقاً وان يناسب عمره).
وترى الموسوي (إن تواجد الطفل في الشارع وهو في مقتبل العمر يمثل خطراً اجتماعياً، حيث إن الطفل بتركيبته مستعد لتلقي كل شيء من الشارع، مؤكدة إن ذلك يتسبب بالكثير من الأمور السلبية فضلا عن بناء جيل متخلف).
وأشارت إلى إن الأطفال يتعرضون حالياً لأعمال خطرة وهم بحاجة إلى الرعاية والحرص والتثقيف بخصوص العمل وخطورته، مشددة على ضرورة التنسيق مع دوائر الدولة في محافظة كربلاء المقدسة لوضع ضوابط وتوصيات معينة لضمان سلامة الأطفال.
*استحقاقات أمام الحكومة
وحول المقترحات والتوصيات لحماية الأطفال العراقيين خاصة الذين أجبروا على ترك المدرسة والتوجه الى ميدان العمل في الأسواق والشوارع نتيجة للظروف المعيشية القاهرة، يشير القانوني علي رضا الحلو في تصريحه لـ (الهدى)، (من التوصيات الواجب العمل بها للقضاء على ظاهرة عمالة الأطفال، هي إجراء دراسة شاملة لأسباب انخراط الأطفال في العمل و العوامل المسببة لذلك، فضلاً عن تأسيس إطار قانوني من خلال تشريع القوانين للقضاء على عمل الأطفال واجراء التعديلات على القوانين العراقية المتخذة بهذه الظاهرة، وكذلك اعتماد برامج إعلامية شاملة توضّح خطورة تشغيل الأطفال واستغلالهم والأمراض والإصابات التي يتعرضون لها والتنبيه لخطورة هذا الوضع).
ويضيف الحلو، (يتطلب من الحكومة العراقية والوزارة المعنية العمل على توفير الخدمات الأساسية للأطفال وأسرھم كون ذلك من واجبات الدولة، وتخصيص ميزانيات مناسبة للضمان الاجتماعي والصحي وتحفيز الإعانات الاجتماعية و رعاية الأمهات العاملات، فضلاً عن رعاية الأطفال الفقراء في المدارس من خلال تفعيل مشاريع التغذية والإعانات والتأهيل ورعاية أمرھم ببرامج تنموية.
وما بين العوَز والتهميش وبين الحرمان الكبير الذي تعيشه شريحة كبيرة من الأطفال العاملين وغياب قانون رعاية الطفولة والأيتام، أصبحت أحلام الأطفال العراقيين نجوماً بعيدة المنال في لياليهم، وبات العراق غارقاً في عمالة الأطفال، ليس في كربلاء المقدسة، بل حتى في بقية المدن بتفاوت النسب، حسب الأوضاع السائدة فيها، وندعو المسؤولين المنتخبين سواء في السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية وفي مخلتف الدوائر والمؤسسات أن تأخذ هذا الموضوع على محمل الجدّ، لا أن تتركه كظاهرة لابد منها وإحدى افرازات الحروب الماضية، وكأنها أمر طبيعي، إذ إن تفاقم هذه المشكلة الإنسانية ربما تفرز ظواهر سلبية أخرى لا تكون في الحسبان تترك أثرها السيئ على مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الامنية.