قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

كربلاء.. تشتكي
كاظم فنجان الحمامي
تمددت شوارع كربلاء واستطالت أزقتها، واتسعت مساحاتها،وفتحت أذرعها لتستقبل وتستوعب الحشود المليونية الزاحفة نحوها في ذكرى أربعينية استشهاد الإمام الحسين (ع)، والوقوف مع العقيلة زينب الحوراء(ع)، التي عادت في مثل هذا اليوم من الأسر، وجسدت في مواقفها البطولية كل معاني الإيمان والشجاعة والشموخ والصمود والصبر على الشدائد. ملايين الزوار جاءوها زحفا ومشيا على الأقدام من داخل العراق وخارجه، منهم من ركب البحر، ومنهم من تنقل بالطرق البرية والجوية. حضروا هنا في الزمان والمكان، الذي شهد تفاصيل فجيعة الطف، ومصارع آل بيت النبوة،واستشهاد سادت السادات وليوث الغابات.
تجمعت المدن والضواحي والقصبات كلها في كربلاء، التي صارت بين ليلة وضحاها اكبر المحافظات العراقية من حيث الكثافة السكانية، وسجل الناس البسطاء أرقاما قياسية في قطع المسافات الطويلة، ورسموا لنا صورة مشرفة في التلاحم والتواد، والوقوف صفا واحدا بوجه الذين اغتصبوا حقوقهم، ونهبوا ثرواتهم، وهم يرددون صيحة واحدة (هيهات منا الذلة)، وارتقوا سلم الجود والكرم والإحسان من حيث الخدمات والتسهيلات الكبيرة، التي قدموها بسخاء للزوار,، وكان المواطنون البسطاء أكثر بذلا وعطاء من التشكيلات الحكومية، التي ذابت وتبددت في خضم البحور البشرية المتشحة بالسواد، ولم يعد لها أي أثر ملموس.
كانت الهواتف المحمولة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة في التواصل والتنسيق بين الناس، لكن هذه الأجهزة كانت شبه معطلة كلما اقتربت الجموع من كربلاء بسبب ضعف التغطية، وبسبب فشل أبراج الاتصالات والشبكات في تقديم خدماتها كما ينبغي، وكانت أرقام الأعمدة الكهربائية التي تتوسط الطريق العام بين (خان النص) وكربلاء هي النقاط الدالة، والوسيلة الوحيدة للاستدلال على مواقع الذين تبحث عنهم بين الحشود المليونية. واختفى رجال المرور من الطرق الخارجية، وكانت السيارات والشاحنات تسير بسرعات سلحفاتية، وتتخبط في مساراتها، وتتقاطع في تحركاتها مع القوافل البشرية، بسبب غياب التنظيم والتنسيق والتوجيه، وفقدان زمام التحكم والسيطرة، ولم يعد لها وجود عند مقتربات المدينة، واختفت اللافتات المرورية والعلامات الإرشادية، واللوحات التوضيحية، فلا وجود لها حتى داخل المدينة المكتظة بالناس. كنا نبحث عن الإشارات التعريفية، التي يفترض وجودها عند التقاطعات، وحول نقاط الاستدارة، والتي نستخدمها عادة في التعرف على وجهتنا وتعديل مساراتنا، فلم نجدها،ولم نعثر عليها، وكانت معظم الساحات مزينة بصور كبيرة وملونة للإعلانات الانتخابية!، وشاهدنا الناس وهم يصبون جام غضبهم على المرشح صاحب الصورة، وينعتونه بالنعوت الساخرة من دون أن يسيئوا الأدب.
تكدست فضلات الطعام في الشوارع والساحات، وطفت العبوات البلاستيكية على مياه الأنهار والسواقي الداخلية،وكانت الفنادق الكبيرة الفارهة ترفض استقبال المواطنين العراقيين!، وتفضل التعامل مع الوافدين من خارج العراق طمعا بالموارد المالية (بالعملة الصعبة)، وشاهدت الناس يفترشون الأرصفة المبللة، وينامون أحيانا في الأماكن المخصصة لأداء مناسك الزيارة، وقد حجزوا لهم ولعوائلهم أماكن واسعة في الحدائق المحصورة بين الحرمين، وهي الأماكن التي لا يجب النوم فيها، وخصوصا في مثل هذه المناسبات.
انتهت مراسيم الزيارة يوم السبت (6/2/2010)، وشرع الناس بمغادرة كربلاء والعودة لمدنهم، فقررنا العودة بسيارتنا، وانطلقنا من منطقة (السعدية) قرب المخيم بعد أن تناولنا الفطور في بيت الحاج (أبو سيف)،لكننا أمضينا الوقت كله نتخبط في الشوارع التي غطتها مياه الأمطار، وغمرتها الأطيان، وكأننا ندور في حلقات مغلقة، نبحث عن الطريق المؤدي إلى البصرة فلم نجده، ونسأل رجال المرور فيدلونا على الطريق، لكننا نكتشف بعد مشقة وعناء إن هذا الطريق مسدود بالحواجز الكونكريتية، وأخيرا خرجنا من المدينة بعد أن انتصف النهار، ووجدنا أنفسنا نسير في بحر من السيارات المتكدسة، وازداد الوضع سوءا بهبوط درجات الحرارة إلى الصفر المئوي، وسقوط البلورات الثلجية على الشوارع الطينية الزلقة، وغاصت أقدام الناس في الأوحال المتجمدة، ولم تكن أجسادهم الضعيفة، التي أنهكها السفر، قادرة على الصمود أمام موجة البرد القارص. وتوقفت سيارتنا عند العمود (1150) لالتقاط امرأة كبيرة في السن وابنتها المشرفة على الموت في هذا التيه الطيني العظيم، فاضطررنا لتغيير مسارنا، وتبعتنا مجموعة أخرى من السيارات المتحركة معنا على غير هدى، فوجدنا الطريق مغلقا بسيارة عسكرية من نوع (همر)، وعبثا حاولنا إقناع الجنود بإفساح الطريق، مما اضطر أكبرنا سنا للوقوف في الوحل بين يدي الضابط المتغطرس الموجود بداخل الهمر والتوسل إليه بأرق العبارات وأجمل الكلمات، طالبا منه التنحي عن طريقنا، والسماح لنا بالعودة إلى أهلنا.
وهكذا عدنا إلى البصرة وقطعنا الطريق كله من دون أن نشعر بالتعب والإجهاد، لأننا كنا نحس بالراحة والطمأنينة بعد عودتنا من زيارة سيد شباب أهل الجنة، لكننا انشغلنا بمناقشة سوء التنظيم، وتشخيص أوضاع الإهمال واللامبالاة، واستعرضنا عجز الجهات المسؤولة وتقصيرها في تحسين مستوى الخدمات،التي يفترض تقديمها للجموع الغفيرة المتوجهة إلى كربلاء، والتي ينبغي أن تكون منسجمة ومتوافقة مع هذه الأعداد البشرية الهائلة.