التكرار في القرآن الكريم..
(الرحمن) .. استحالة نكران النعم
|
*ضياء العيداني
يطلق التكرار بمعنى ذكر الشيء مرة بعد أخرى، وأكثر ما يتحقق في ذلك المفهوم أن يُعاد ذكر الشيء بلفظه أو مرادفه وهذا مانجده أيضاً في القرآن الكريم، حيث يرد فيه التكرار على نحو مميّز فنياً وبلاغياً، والتكرار في القرآن الكريم يرد في السورة الواحدة ويعطي دلالة خاصة بها مثل قوله تعالى "فبأي آلاء ربكما تكذبان" في سورة (الرحمن) وكذلك في سورة (الكافرون) وتكرار الشرط في سورة (التكوير)، وهناك تكرار مفردة في سورة مثل مفردة (الناس) في سورة (الناس)، والتكرار في قصة آدم والملائكة وحكاية إبليس تتكرر أيضاً مرات عدة في القرآن الكريم، وكذلك قصة موسى التي تتكرر كثيرا وغيرها، وفي كل مرة هناك جوانب فنية ومقاصد معنوية وعبر ودلالات عظيمة، تختلف عما نسرده من القصص التي ترد في كتاباتنا نحن البشر.
فالتكرار في سورة (المرسلات) يتمثل في تلك الجملة المنذورة وهي قوله تعالى "وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" (المرسلات/ 15) وإذا نظرنا إلى هذه السورة وجدناها تتحدث عن وقوع اليوم الآخر وتصفه، فلا جرم يتكرر هذا الإنذار عقب كل وصف له أو فعل يقع فيه أو عمل من الله يدل على قدرة يحيى بها الناس بعد موتهم، وفي هذا التكرار ما يوحي بالرهبة ويملأ القلب رعباً من التكذيب بهذا اليوم الواقع بلا ريب، وفي سورة (الشعراء) تكررت الآية الكريمة وهي قوله تعالى "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ" ثمان مرات وكانت متمكنة من موضعها في كل مكان حلّت فيه، فقد جاءت في هذه السورة أولاً بعد أن وجه القرآن نظرهم إلى الأرض.
وتجد الآية التي تكررت في سورة (القمر) وهي قوله سبحانه "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر/ 17) منبهة في كل موضع وردت فيه إلى أن ما سيأتي بعدئذ مما عنى القرآن بالحديث عنه تذكرة وعظة، وهو لذلك جدير بالتأمل الهادئ والتدبر والادكار.
وقد يحدث التكرار في آيتين متواليتين كما في قوله سبحانه "وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً، وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً"، وذلك لتثبيت الإيمان بغنى الله عن عبادة العابد في قلوب الناس ليقبلوا على العبادة مؤمنين بأنها لخيرهم وحدهم، بل قد يكون التكرار في الآية الواحدة وذلك لتثبيت المكرر في النفس، كما قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"(الحشر/ 18).
ويوحي التكرار في سورة ( الكافرون ) باليأس في قلوب من كفر من إنصراف الرسول عن دينه إلى ما كان يعبد هؤلاء الكفرة فليتدبروا أمرهم بينهم مليّا ليروا سر هذا الإصرار من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعساهم يدركون سر إصرار ثباته (صلى الله عليه وآله)، وفي الوقت نفسه يكون حافزاً ودافعاً للآخرين للانضمام الى الدين الحنيف.
*سورة الرحمن أنموذجاً
سورة الرحمن لها طابع خاصّ في إيقاعها المتكرّر، وفي بنائها، وفي مغزاها وفحواها، وفي هندسة آياتها، فأول ما يلفت انتباه قارئها وسامعها هو الإستفهام الإيقاعي المتكرّر: "فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"، والذي مُهّد له تمهيدًا رائعًا، حيث جاء بعد (12) آية متّحدة الفواصل، وتكثيف الإستفهام بهذه الصورة لم يرد في أي سورة أخرى من سور القرآن، فهذا العدد من المرات الـ(31) في سورة تعداد آياتها (78) آية كريمة، يجعلها تنفرد بهذه الظاهرة العجيبة بين كل سور القرآن الكريم، وقد جاء في الفائدة من هذا التكرار أنه حسنٌ للتقرير بالنعم المختلفة، فكلّما ذكّر الله تعالى بنعمة أنعم بها قرّر عليها، و وبّخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خوّلتك الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن خلّصتك من المكاره؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن منه التكرير لاختلاف ما يقرّره به، ولذلك يأتي بهذا الإستفهام بعد كل نعمة يذكرها، لتتحصّل في النهاية طائفة مجتمعة من النعم والآلاء، كأنه يستفهم: "فبأي آلاء ربكما تكذبان"؟ أتكذّبان بإنزال القرآن؟ أتكذّبان بأنكم مخلوقون أحياء؟ أتكذبان بأنكم متكلمون بُيناء؟ أتكذّبان بالشمس والقمر ومنافعهما التي لا تُحصى؟ أتكذّبان بالنبات والأشجار؟ أتكذّبان برفع السماء والتشريع العادل؟ أتكذّبان بخلق الأرض وإقامتكم منعمين هانئين عليها؟ أتكذّبان بما تجود به لكم من خيرات... ؟ إن استطعتم أن تكذّبا يا معشر الثقلين ولو بخلق أنفسكم، ويكون لتكذيبكم تصديق عند أنفسكم، صحّ لكم أن تكذّبوا بالرحمن، وإن لم تستطيعوا، ولا بدّ من ذلك، فلا يصحّ لكم أن تكذّبوا بالرحمن!، فهذا الإستفهام الإيقاعي ينفي كل احتمال للقدرة على التكذيب بآلاء الله تعالى، ومن الطبيعي أن يكون هذا هو الإيقاع المتّسق أكمل الإتّساق في سورة إسمها (الرحمن)، وأولى آياتها "الرَّحْمَن"، فآلاء الرحمن لا تُكذّب، ونعمه لا تُجحد، وإنما هي فيض من فيوض رحمته بعباده.
أما الهيكل العام للسورة، فيمكننا أن نصفه بأنه قائم على أساس تفكيك الصور، فمع تكامل الصور الثرية ونموّها، نجد آية الإيقاع تعمل على تفكيكها، ومثل ذلك صورة الجنّتين، فلو أنك قرأت "ومن دونهما جنّتان"، "مدهامّتان"، "فيهما عينان نضّاختان"، "فيهما فاكهة ونخل ورمّان"، "فيهن خيرات حسان"، "حور مقصورات في الخيام"، "لم يطمثنّ إنس قبلهم ولا جانّ"، "متّكئين على رفرف خضر وعبقري حسان.."، تجد أن الإيقاع يعمل على تفكيك كل آية عمّا قبلها وعمّا بعدها، ومن فوائد هذا التفكيك إيضاح الطابع الخاصّ الذي جاءت السورة كلها لتبيّن معناه وفحواه، وهو أن تستقرّ هذه الصور في ذهن المتلقّي، لتملأ وجدانه في أن ما يبدو في ظاهره نعمة واحدة، هو في حقيقته مجموعة من النعم، فلو أن السياق والى بين أجزاء الصورة الواحدة، وحذف الإيقاع وجعل عناصرها متتابعة لكان للمتلقّي أن يمرّ عليها بسرعة، ولا يتوقّف عند أجزائها ليستوعبها، ويستجلي ما وراء دقائقها من دلالة على آلاء الله التي لا تُكذّب، فهذا الفاصل الإيقاعي وسيلة فنّية، ودعوة متجدّدة إلى التحليل والتأمّل بنعم الله تعالى وآلائه.
ومن هنا يتّضح لك أن التكرار في السورة ليس مجرّد حُلية لفظية، ولا مجرّد قيمة إيقاعية عابرة، ولكنه قرار لكل موجة غامرة من موجات العطاء، وإشراقة لكل آية باهرة من آيات السّخاء، فالوحدة متحقّقة متغلغلة بين الإيقاع والغاية التي تتآزر السورة كلها على تحقيقها، ومن ثمّ فهي تضفي إليه بُعداً جديداً ذا طابع فني فريد يكمن في هيكلة آياته!
|
|