بين الثقافة الاسلامية والثقافات الأخرى
|
*المحامي / حيدر الظالمي
قد لا نبالغ كثيراً إذا قلنا إن النشاط الفكري للانسان بكل ما يحمله من تفاصيل وألوان تُختزل في كلمة واحدة وهي (الثقافة)، ولكن مفهوم الثقافة لا ينحصر في إطار هذه المفردة، ربما يحاول الانسان الاقتراب من المفهوم ولكنه لا يطاله فهو أشبه بمحاولة مسك الهواء، ولكن لا بأس بمحاولة أن نكون مثقفين، وهذه المحاولة أقرها القرآن الكريم بل أكّد عليها في غير آية كريمة عندما حثّ على التدبّر والتفكّر في خلق السموات والأرض وفي الظواهر الطبيعية والانسانية.
أية ثقافة أقرب الى الانسان؟
لابد من القول: إن مصطلح (الثقافة) لم يتشكل في الأدبيات الاسلامية الأولى، إنما لدينا في سيرة المعصومين منظومة من القيم والتعاليم والمبادئ التي تمكن الانسان من سلوك الطريق الصحيح في حياته، وأن يتجنب الخطأ والانزلاق في المهاوي في جميع أبعاد حياته ما استطاع الى ذلك سبيلا. إذن؛ فثمة نظرية وإطار عام، يبقى الانسان هو الذي عليه أن يرسم طريقه بنفسه وحسب ظروفه وقدراته الخاصة. لذا نجد في العهود الاسلامية الأولى، إن عالم الدين والأديب والمؤرخ من شريحة المثقفين، كما نجد الى جانب هؤلاء بعض أصناف من الموالي والعبيد أيضاً من المثقفين، لاسيما أولئك الذين كانوا يعيشون في كنف الأئمة المعصومين والأولياء الصالحين بل حتى العلماء الربانيين، فنجدهم يحفظون الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة والحكم والمواعظ ، وكانت لديهم سرعة البديهة والفطنة و قدة الملاحظة.
بينما (الثقافة) في الوقت الحاضر فانها مأخوذة من اللاتينية ((culture ومعناها في العصور القديمة والوسطى مقصور على معنى مادي هو تنمية الأرض ومحصولاتها ، وتطورت في العصور الحديثة لتشمل مدلولين؛ مادي وعقلي كما تطورت مرة أخرى في القرن الثامن عشر فأصبحت تدل على تنمية العقل والذوق ثم الى حصيلة هذه العملية أي المكاسب العقلية والادبية والذوقية التي نعبر عنها في لغتنا بلفظ (الثقافة) و(المدنية) أحياناً ولا يزال هذا المعنى هو السائد حالياً، ويعرّف البعض الثقافة بمجموعة العلوم والفنون والمعارف النظرية التي تؤلف الفكر الشامل للإنسان فتكسبه أسباب الرقي والتقدم والوعي. فالثقافة هي عملية بناء معنوي للانسان ، كما هي عملية التعلّم من الصغر.
وبما إن الانسان مجبول على الفطرة، محبّ للقيم الايجابية التي يأنس لها الضمير والوجدان، مثل التعاون والصدق والامانة والضحية والوفاء وغيرها، فانه دائماً يحاول أن يطعم سلوكه وتوجهاته الذهنية بقيم ومبادئ كهذه، ونجد هذا على وجه التحديد في شريحة الشباب الذي يبدأون من صفحة بيضاء ونفسية مرنة، لكن أية ثقافة وايديولوجية تلك التي تحمل كل هذه القيم والمبادئ الانسانية والمنظومة الاخلاقية المتكاملة غير الدين الاسلامي؟
مميزات الثقافة الاسلامية
من مميزات الثقافة الإسلامية أنها تحمل طابع الشخصية الإنسانية التي تهتم ببناء الانسان على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع وفي مجالات الحياة كافة، نظراً للترابط العفوي بين الرسالة الاسلامية وبين الإنسان، ومن أبرز ما تتميز به الثقافة الاسلامية ما يلي:
1- المعنوية:
ونقصد بالمعنوية، أوالفهم المعنوي للحياة ، هو أن ينظر الإنسان للحياة من خلال ارتباطه بالله تعالى وعموم الرابطة الغيبية التي تخرجه من قيود المادة التي تحبس الانسان عن إدراك المعنى الحقيقي للحياة، فضلاً عن أنها زائلة ومتغيرة، فيما القيم المعنوية ثابتة لاتتغير طول الزمن.
2- الربانية:
إن الثقافة الإسلامية تؤكد على أن الله تعالى هو الخالق والمشرّع والمربي وعليه فإن الخالق الذي أحاط بمخلوقاته من كل جانب لا يمكن أن يتصور ان يستغنى من أحكام شريعته أو يستعاض عنها بثقافة البشر وتجاربهم. وهذا لا يلغي التجربة بشكل نهائي من حياة الانسان أو أنها غير مهمة، فالانسان من شأنه الاختبار والتجربة والسعي في الأرض بما جعله الله تعالى صاحب إرادة ومقدرة. لكن يبقى العقل التجريبي في حدود الحقائق المادية في الحياة، لكنه يجد نفسه عاجزاً وصغيراً أمام الخالق، من هنا جاء النهي والحذر الشديد من رذيلة التكبّر والغرور والتعالي على الآخرين. وهذا ما تحدده الثقافة الاسلامية التي تفتح آفاق العقيدة على قلبه، كما تفتح آفاق العلم والمعرفة على عقله وتفكيره.
3- الشمولية:
لم تترك الشريعة الاسلامية زاوية من زوايا الحياة المظلمة إلا وسلّطت عليه الضوء وضخت فيه الأحكام والتعاليم، فلا يوجد سؤالاً يقف دون جواب أمام الثقافة الاسلامية.
4- العصرنة:
من أهم ميزات الإسلام؛ أنه يتكيّف مع الزمن ويواكب حركة الانسان في تطوره العلمي، وقد يبدو للوهلة الأولى وخاصة لدى الشباب أن هذا الأمر بعيداً عن الواقع، بل ومستحيلاً ! فكيف للإسلام أن يواكب الظروف والعصور وشريعته أحكام ثابتة تقيد الانسان؟!
إذا طالعنا الاحكام الشرعية في رسالة مراجع الدين، نجد إن الاحكام الثابتة، وهي مسائل عبادية مثل الصلاة والصوم والحج والخمس، هي أمور تتعلق بالعلاقة بين الانسان وربه، ولابد لها أن تكون ثابتة، لكن ما يتعلق بين الانسان ونفسه وبينه وبين الآخرين، فان الثفافة الاسلامية تفتح أمامه نوافذ المعرفة والتفكّر والابداع ، لما فيه رضا الله سبحانه وتعالى ورضا الوجدان والناس. فعندما حرّم أكل لحم الخنزير وسمك (الجرّي) وشرب المسكر، فانه ليس فقط أحلّ كثير من أنواع اللحوم المفيدة والمشروبات اللذيذة، بل فسح أمامه المجال للابداع في تحويل تربية الماشية والدواجن والمحاصيل الزراعية الى قطاع الصناعة، لانتاج اللحوم المجمدة وتعبئة المشروبات الغازية، والقائمة طويلة في هذا المجال.
5- الواقعية:
وتعني أن أحكام الشريعة الاسلامية تقوم على ملاكات من المصالح والمفاسد الله تعالى أعلم بها، وعلى الانسان التسليم لحكمة الله تعلى وإن الله تعالى لا يأمر بشيء إلا وفيه مصلحة، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه مفسدة. إن النظرة الموضوعية للشريعة الإسلامية تكشف عن آثار الحكمة الإلهية البالغة لمفرداتها وأن ما وصلت إليه الإحصاءات والتجارب العلمية تؤكد هذه الحقيقة، فإن تحريم شرب الخمر وقتل النفس البريئة والعلاقات السائبة بين الجنسين والتحكّم بأموال الآخرين وعقوق الوالدين وغيرها، والآثار السلبية لكل ذلك، يؤكد على واقعية الاسلام.
6- الأخروية:
هنالك مذاهب إجتماعية حاولت إلغاء أو تغييب عالم الآخرة من حياة الانسان، والإيحاء له بأنه لن يعيش سوى في عالم الدنيا، وهو ما سعت اليه الوجودية والمادية وغيرها. وما على الانسان سوى أن يتمتع ما أمكنه في هذه الحياة وإشباع غرائزه مهما كانت، بالمقابل هنالك مذاهب اجتماعية اقتصرت في توجهها على الحياة الآخرة ودعت للابتعاد عن عالم الدنيا كما فعلت الصوفية في مراحل مختلفة من التاريخ الاسلام، وما تزال تبحث عن مريديها في بعض البلدان الاسلامية، فيما هنالك مذاهب اخرى فصلت بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة كما في النصرانية المنحرفة التي قالت: (بأن كل ذنوب المسيحيين مغفورة بشفاعة السيد المسيح)!!
أما الشريعة الإسلامية فإنها نظرت نظرة شاملة متوازنة حيث اتخذت من الحياة الدنيا منطلقاً للفوز بالحياة الآخرة وهي دار القرار، كما يعبّر عنها القرآن الكريم، فعندما أفسح المجال أمام الانسان ليتمتع بالملذات المشروعة ويتنعّم بوسائل النقل المريحة والدار الوسيعة والمال الوفير وغير ذلك، فانه جعل كل ذلك سلّماً يرتقي به الانسان نحو الكمال الانساني الذي يمكنه من الفوز برضوان الله تعالى ثم ا لجنّة، بمعنى إن الذي يُنفق على اليتيم والفقير أو الذي يسهم في مشروع ثقافي وتربوي للشباب لن يتسبب ذلك بخسارته أو تدهور أوضاعه المعيشية والاجتماعية، بل العكس تماماً، نجد تزايد البركة عليه وشعوره بالارتياح النفسي والاستقرار. وهو أمرٌ مجرّب عند الكثيرين. فهو ينفق أو يعمل من أجل الآخرين، ليس فقط لأنه يشعر بالفخر والاعتزاز بين أوساط المجتمع، وهي حالة نفسية مجبول عليه الانسان، بل لأن ثقافته الدينية دلّته على أن حياته مستمرة ما بعد موته، فهو سيكون حيّا في ذكره وآثاره الثقافية أو العمرانية بين أبناء المجتمع، بينما نرى العكس، من هم يتصورون أنهم أحياء مهيمنون باموالهم وقدراتهم السياسية والاجتماعية، لكن بعد موتهم، نجد أن كأن شيئاً لم يكن. إن لم نقل بملاحقتهم للّعنات والانتقادات.
7- الانفتاح:
تتميز الثقافة الإسلامية بأنها منفتحة لا تقر الانغلاق والتأطّر بالماضي لا لشيء إلا لأنه ماض، كما أنها لا تنكفئ على مكان فالإسلام رفض للإنسان أن يكون إفرازاً للبيئة أو امتداداً لا إرادياً للاباء والأجداد "بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"، إن الاسلام دين الدليل والانفتاح كما انطلق بالمؤمنين ليتحركوا حيثما تتحرك الحكمة بغض النظر عن حاملها حتى إذا كان كافراً أو منافقاً فقد جاء في الحديث الشريف: (الحكمة ضالة المؤمن فخذ ضالتك حتى من أهل النفاق) إن هذا الانفتاح لا ينبغي أن يمارس في موقع الغفلة أو فقدان الثقة بالنفس فقد زخرت صفحات التاريخ بأروع صور الانفتاح على الآخر.
8- الانسانية:
لقد أ ولى الإسلام الإنسان رعاية خاصة وكرّمه بما هو إنسان بغض النظر عن معتقده وثقافته و وعيه "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً".
لقد أشاد الإسلام صرح البناء المدني للمجتمع على أسس انسانية لا يوجد لها نظير ابتداءً من العلاقة الزوجية وما أودع الله فيها من مودة ورحمة واستمر معها الى مرحلة العطاء التكويني في الإنجاب ليصوغ العلاقة مرة أخرى على أساس الأحاسيس والمشاعر حيث يأمر الولد بالإحسان الى والديه بغض النظر عن دينهم ومدى إلتزامهم بل حتى إذا تعرض الولد الى ضغوط من الوالدين لحمله على الشرك يأمره الله تعالى بعدم الطاعة من دون أن يخل بقاعدة المصاحبة بالمعروف. كما ثبت (إطار التقوى) للاجتماع الذي تتحرك في علاقات الشعوب المكونة لذلك الاجتماع. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم".
هذه المنظومة من المعارف والقيم، بين يدي كل محبّ للثقافة ومن يرنو للتنمية الذهنية والعقلية، ليحكم، أ يوجد أكثر من الثقافة الاسلامية اهتماماً بالانسان في مسيرة حياته نحو التطور والتقدم والعيش الكريم؟
|
|