بصائر... قبسات من رؤى ومحاضرات سَمَاحَة المَرجِعِ الدّيني آيةِ اللهِ العُظمى السّيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
خطّة استراتيجية لتطبيق القيم والمبادئ الاسلامية
|
*إعداد / بشير عباس
متى تنطلق الأمّة الإسلاميّة؟ ومن يرفع رايتها بعد حقبة من التلكؤ والتوقف.
قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة ذات الأهميّة القصوى لحياتنا لابدّ أن نمهّد ببصيرتين نافذتين:
البصيرة الأولى: عادة ننشغل بالأمور الصغيرة ونغفل عن عظائم الأمور، فنهتم بالشجرة ونغفل عن الغابة، نهتم بطريق فرعي، ولكن لا نفكّر بما فيه الكفاية بالطريق الرئيس والاتجاه، فلا نختار الاتجاه، إنما نختار الطريق، لذا فان تعبيد الطريق في الاتجاه الخاطئ لن ينفعنا شيئاً.
من هنا يجدر بنا أن نضع في حياتنا ساعات للتفكير في مسار الأمّة فيما يرتبط بالاتجاهات العامّة أو ما يسمّى اليوم بـ (الاستراتيجيّات العامّة)، ولو أنّ الإنسان اهتمّ بالعظائم فإنه تهون عليه الصغائر، بل يستطيع أن يكيّفها وفق خطّته بعيدة المدى والشاملة.
البصيرة الثانية: أنّ العالم يزداد إندماجاً، كلّ يوم يمرّ، بل كلّ ساعة تمرّ ونجد أنّ المجتمع البشري ذات السبعة آلاف مليار نسمة، هؤلاء يتحوّلون إلى أسرة واحدة وكأنهم يعيشون في قرية صغيرة، يتفاعلون مع بعضهم، يتبادلون التأثير الاقتصادي والثقافي والإعلامي، ومن ثمّ فإنّ الأمّة الإسلاميّة اليوم إذا استطاعت أن تنهض وإذا استطاعت أن تكتشف ما لديها من إمكانات، وتفعّل هذه الإمكانيّات فسوف يكون ذلك نافعاً للبشريّة كلّها، لأنّ الإسلام دين الله الحقّ والأخير، أي مسار التكامل في الرسالات الإلهيّة انتهى إلى رسالة نبيّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التي فصّل الله آياتها بعد أن أحكمها، وجعلها للبشريّة مناراً وإلى الأبد، وهذه الرسالة جاءت لمصلحة الإنسان، وليس فرضاً عليهم، فهي هدى وضياء وفرقان وميزان، وهي لم تأتِ لأولئك الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربيّة حين بُعث النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا الذين يعيشون في محيط العالم الإسلامي اليوم، إنما للبشريّة من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، بلغاتهم كافة، والقرآن الكريم يؤكّد المرّة بعد الأخرى أنّ النبيّ هو نذير للعالمين، وهو رحمة لهم.
بينما إذا قرأنا التوراة ومن ثمّ الإنجيل، وربّما سائر الكتب التي تنسب إلى السماء، نجد أنّ فيها إشارات إلى أنّ هذا الكتاب خاصّ بطائفة معيّنة، مثلاً الإنجيل والتوراة لبني إسرائيل، لكن حينما نقرأ القرآن الكريم نجد أنّ القرآن يبشّرنا برسالة عالميّة: "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين"، هذه البشارة معناها أنّ الإسلام والقرآن الكريم الذي هو كتاب الإسلام ومنهج الإسلام، هو في الحقيقة المنقذ للبشريّة جميعاً، وهذا المنقذ سيأخذ دوره الحقيقي عاجلاً أم آجلاً، وسترفع الحواجز التي تمنع انتشاره أو تمنع تفعيله، وقد بشّر الله سبحانه وتعالى بذلك، فكلّ بشارة جاءت في القرآن تحقّقت، إن بصورة كلّية أو بنسبة معيّنة.
*العالَم يُريد النجاة
إن العالم اليوم يئن من وطأة الرعب النووي والحروب والصراعات على المال والنفوذ والهيمنة، فلا استقرار ولا أمان مطلق، وهو أبسط ما يستحقه الانسان على وجه الأرض، بل إن انسان اليوم بات مهدداً حتى من أبسط وأصغر كائن خلقه الله تعالى وهو (الفيروس) الذي لا يراه إلا بالمجهر وبالأجهزة الدقيقة، وهذه الكائنات الصغيرة الحجم، بامكانها أن تهدد دول وشعوب باكملها!
ويمكن القول إن الشعوب الغربية التي صعقتها الأزمة المالية العاصفة العام الماضي، وكان منشأها الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت تبحث عن البديل والنموذج الأصلح للحياة، والنمط الاقتصادي الصحيح الذي لا يؤدي بهم الى الافلاس والمجاعة والذلّ، كما حصل لآلاف العوائل في مدن امريكية حيث أصبحت مهددة بافتقادها منازلها التي رهنتها لدى المصارف والبنوك، فهبطت قيمة تلك العقارات بشكل مفاجئ وغريب، واصبحوا قاب قوسين أو أدنى من قارعة الطريق، حيث طالبت المصارف والبنوك بتلك العقارات خوفاً من الافلاس والانهيار.
إن الله سبحانه وتعالى جعل المسلمين خير أمّة أخرجت للناس من صفاتها؛ أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تكون أمة وسطاً لتكون شهداء على الناس، فحمّلها سبحانه وتعالى هذه المسؤولية ليقيموا القسط في العالم، وأن يكونوا شهداء للحقّ في كلّ مكان، وأن يدافعوا عن كلّ مستضعف وكلّ محروم، وأن يؤسّسوا مملكة الربّ في الأرض، وهذا هو هدف الرسالات السماوية الى الانسان.
لنفترض أن شريحة مثقفة في الغرب اقتنعت بهذه الفكرة نظرياً وعلمياً وأن الاسلام هو الحل والبديل، لكن أين التطبيق العملي والنموذج الحيّ والملموس الذي يمكننا أن نقدمه لشعوب الغرب والعالم بأسره ليطبقوه في حياتهم؟
إنها مهمة المسلمين أنفسهم الذين يحملون المبادئ والقيم الحقّة، وهم اليوم بحاجة اليوم لأن يتحركوا ويتقدموا خطوات الى الامام، حتى يثبتوا للعالم ان الاسلام حقاً هو الحل والقرآن الكريم هو المنقذ للبشرية من معاناتها ومآسيها. ومن هذه الخطوات يمكننا تسليط الضوء على ما يلي:
أولا: التطبيق العملي
إن أي نظرية أو فكرة لن تكون نافذة وراسخة إلا بعد أن تجد مصاديقها على الواقع العملي، ومن أهم وأبرز مميزات الدين الاسلامي إنه من صميم الواقع الانساني ونابع من الفطرة والوجدان، وكما أسلفنا فانه ليس على الانسان، بل للانسان، رحمةً وعطاءً بلا حدود، طبعاً إن هو أحسن التصرف والاستفادة، من هنا كان من الواجب أن يكون الدين منهج عمل في الأصعدة كافة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى النفسية، فالتفكير و طريقة التعامل والتعاطي فيما بيننا، يجب أن تكون قائمة على منهج ديني متصل بالسماء قادر على أن يحمل هذا الانسان – الفرد والمجتمع الى حيث العلا والسمو والتكامل.
فاذا أصبح الدين نظامنا الاجتماعي والسياسي، و كان الدين وسيلة لصنع أمّة وصياغة مجتمع من جميع الجوانب فإننا سوف نخطو الخطوة الأولى والأساسيّة في طريق انطلاقة الأمّة، لكن السؤال يبقى حائراً من هذه المجموعة التي فردناها أية واحدة منها تكون الأولى؟ وبعبارة أوضح؛ هل التطبيق على صعيد المجتمع هو بداية المسيرة لصنع النموذج أم على صعيد السياسة أم التفكير الانساني؟
من الناحية المنطقية نجد إن منهجيّة التفكير هي البداية، لأنّ الإنسان كائن حرّ ومنطقي، تقوده أفكاره و إرادته ومشيئته التي لا تخضع إلاّ لذاتها، فهي تتفوّق على كلّ الحتميّات والاقتضاءات والضغوط المحيطة به، فالإنسان مُريد وقادر الى اتخاذ القرار الذي يشاء، وهذه هي الصفة الأساسيّة التي تميزه عن سائر الكائنات، كما أكدّ هذه الحقيقة العلمية القرآن الكريم، وعدّها الأمانة التي حمّلها الله سبحانه وتعالى إياه، بعد أن رفضت حملها السموات السبع والأرض الواسعة والجبال العظام، بل وأشفقن منها، وحملها الإنسان بملء إرادته.
وعليه فاذا كانت المنهجيّة الفكريّة، والمنطق الذي على أساسه يقرّر الإنسان، سليماً وصائباً فانه يستطيع أن يقرّر القرار الصائب، وإذا قرّر القرار الصائب فإنه ينجح في صياغة نفسه من جديد، سواء في حقل الأخلاق أم في حقل النظام الاقتصادي أو في حقل النظام السياسي، أو غير ذلك، وبالرغم من أنّ الدعاة إلى الله والعاملين في سبيله، والمبشّرين بهذه البصائر القرآنيّة، أجهدوا أنفسهم وكافحوا وناضلوا، إلاّ ان مشاكل الأمّة أكبر من ذلك، فلن نفلح جميعاً في أداء هذه الرّسالة، بل نحتاج إلى المزيد من الجهد و المزيد ممن يحمل هذه الأمانة الإلهيّة.
في (سورة الزمر /17-18) يشير البارئ عزّ وجلّ الى هذه الخطوة وسائر الخطوات على طريق تشكيل النموذج الاسلامي الناجح للعالم، حينما يصف لنا المؤمنين الصادقين والصالحين بقوله: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب".
ثانياً: الاعتماد على قوة الأرض
إن القرآن الكريم يدعونا لأن ننفض أيدينا من كل قوة على وجه الأرض والتمسك بحبل الله المتين والاعتماد على السماء والتوكل على الحيّ الذي لا يموت، وقد حددت الآية الكريمة تلك القوة بـ (الطاغوت) لأنها إحدى تجلّيات القوة المصطنعة التي يختلقها الانسان في الارض، وهذه القوة الغاشمة هي تسلب الإنسان حرّيته، وحقوقه، وفكره، لذا يأمرنا القرآن أن نتجنب الطاغوت، لأن الانصياع لهذا الطاغوت أو (عبادته) يعني الانسلاخ من الإنسانيّة، إذ الانسان في هذه الحالة يفقد الارادة والحرية ويكون أداة بيد غيره، ولعل المثل البارز والقريب علينا ما جرى للعراق خلال حكم الطاغوت المتفرعن طوال حوالي خمسة وثلاثين سنة، وما خلّف ذلك من آثار نفسية عميقة في الوجدان الشعبي والسلوك العام ما هو بحاجة الى سنوات طوال لتقويمه وتصحيحه وإعادة الناس الى هويتهم الدينية وقيمهم الاخلاقية.
بل أكثر من ذلك؛ فان الله سبحانه وتعالى طالما حذر الإنسان من مغبة سيطرة الشهوات على عقله ومصيره وتصرفاته، لأن عبادة المال والسلطة والجنس، هي الأخرى تسبب للانسان العبودية التي تؤدي به الى الذلّ والخسارة، بينما الله يريد للانسان الحرية والكرامة والعزّ، فهو تعالى لا يريد أن يربح عليه بقدر ما يريد أن يربح عليه الانسان ويستفيد في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: الانفتاح وصولاً الى الحقيقة
بعد أن يحذرنا القرآن الكريم على طريق عبادة المخلوق والشهوات في ضوء الآيات الكريمة من (سورة الزمر)، يوجهنا الى الخطوة الأخرى وهي الانفتاح الى الرؤى والأفكار الأخرى، ويعبّر عنها هنا بـ(الاستماع)، وهي ليست (السمع) التي تجعل الانسان مجرد متلقي وحمّال لأفكار وتصورات ومؤثرات مختلفة، وربما مضلّة تبعده عن جادة الرشاد، إذن، نحن أمام نطرية قرآنية للتعامل مع الأفكار مهما كانت، فلا الانغلاق على الذات والتقوقع والابتعاد عن الآخرين والاجواء العامة، ولا (السمع والطاعة) والتأثر السريع، إنما (الاستماع) والاختيار، ومن الناحية اللغوية الفرق واضح وكبير بين المفردتين؛ فالمفردة التي نحن بصددها، تقتضي اليقظة من الانسان والتمييز وتحكيم إرادته ومستوى ثقافته في قبول أو رفض ما يستمع اليه، فهو يحلّل ويفرز من خلال العقل والبصيرة، فضلاً عن هذا، فان شعاره هو حديث أمير المؤمنين (عليه السلام): (انظر الى ما قال، ولا تنظر الى من قال). فالحكمة ضالة المؤمن – كما جاء في الحديث الشريف- فليكن القائل مؤمناً أو منافقاً أو كافراً أو صديقاً أو عدوّاً، إنما المهم جوهر الكلام.
وفي مرحلة لاحقة وعندما يكتشف الحقيقة تأتي خطوة الاتباع؛ "فيتبعون أحسنه" وحينما يقول سبحانه وتعالى: "أحسنه" لأنّ القول قد يكون خاطئاً فيرفضه الإنسان المؤمن، وقد يكون صائباً، ولكن هناك ما هو أصوب، وما هو أحسن منه، فيبحث عن الأحسن: ثمّ يصف هؤلاء بهذه الصفة، يقول: "أولئك الذين هداهم الله"، وذلك بالموازين السليمة، بالقيم، بالبصائر، بطريقة معرفة القول الحسن أو الأحسن عن القول الخاطئ، ومن ثمّ اتباعه: "وأولئك هم أولوا الألباب"، أي اصحاب العقول.
التكاملية في المجتمع
إن الأخلاق لا تعني مجرّد البشاشة في الوجه، وتبادل التحية والسلام العابر، إنما هي الرؤية الايجابية والتفاعلية فيما بين ابناء الدين والمذهب الواحد، فالمؤمن لا يفرّ من الناس ولا يعيش ذاته، بل إن حالة التوحّد، يمنزلة الداء الذي لا يشعر به الكثير رغم انهم مصابون به، فلا انفتاح على الآخرين ولا تعاون ولا تكامل، مع أحد، و ربما يكون هنالك تعاون عند البعض، لكن نجده ضمن حلقة ضيّقة جدّاً، قد تكون ذات صبغة فئوية أو مناطقية أو غير ذلك مما لا يمكن أن ينتج شيئاً على الصعيد الاجتماعي، بينما يأمرنا الاسلام على التعاون والتعارف: "يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وفي آية أخرى يقول تعالى: "وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".
كل ذلك لا يقوم إلا على قيم الأخلاق في المجتمع، فالناس ينفتحون على بعضهم، ويتعاونون على أسس سليمة، فتكون البداية باصلاح الاقتصاد، فالاقتصاد لا يقوم على الابتزاز، ولا على الظلم، ولا على الغش، ولا على بخس الناس أشيائهم أو أكل المال بالباطل، وبشكل عام فان الله تعالى طالما نهانا عن الظلم ولو بمقدار مثقال ذرة، فالانسان محاسب عليها يوم القيامة. وقد جاء في الاحاديث إن أول ما يبتدأ به الحساب يوم القيامة هو فتح الديوان الخاص بمظالم العباد، وأوّل ما يقوم أهل المحشر من قبورهم يجدون أمامهم الدواوين، مَن الظالم ومَن المظلوم؟ يأخذون من الظالم حقّ المظلوم، و أوّل شيء في هذا الحقل، يحاسب الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس عن الدماء، فمَن قتل من؟ ولماذا قتل مَن؟ ومَن أسهم في قتل أحد؟ ولماذا؟ ومن ثمّ يأتي الحساب على حقوق الله سبحانه وتعالى، من قبيل الصلاة والصيام وسائر الشرائع الإلهيّة. من هنا يجب ان يكون النظام الاقتصادي سليماً، لا يقوم على الربح والخسارة، وكذلك النظام السياسي، أن يكون عادلاً لا ظالماً، لكن هنالك من يقول بملء فيه: نحن لا نملك سياسات ثابتة وإنما نملك مصالح ثابتة!
بالرغم من كل السلبيات والاسقاطات الموجودة في العالم، لكن بامكان الأمة المؤمنة أن تبدأ الاصلاح في الاجتماع الاقتصاد والسياسة وعموم حياة الانسان، ذلك باختيار الأحسن والاصلح، يقول الحديث الشريف: (خير الناس من نفع الناس)، وهذا الاصلاح إن تمّ فانه لا يعمّ المؤمنين والعالم الاسلامي فقط، إنما يعمّ العالم بأسره، وهو الأكثر تعطشاً الى القيم والمبادئ كما أسلفنا، بسبب ما يعيشه من أزمات ومشاكل شائكة ومعقدة، وهنا يتحقق الانتصار الحضاري للاسلام عندما يستعيد مجده وفضله على البشرية.
|
|