قيادة الدين للحياة على أسس علمية
|
*أنور عزّ الدين
أعطى الاسلام قيمة عالية ودور محوري للعلم في إدارة حياة الانسان على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأنكر أي تصرف وسلوك بعيد عن القواعد العلمية، كون ذلك من دواعي الفوضى في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتخبط في المتاهات والمجاهيل التي لا تؤدي بالانسان الى سعادته وتحقيق طموحاته وأهدافه. واذا كان الاجتماع والاقتصاد من أوليات حياة الانسان الفرد قبل الجماعة، فان السياسة تنبع أهميتها من تدخلها المباشر في حياة عامة الناس، فهي عامل تنظيم حياتهم والعلاقات فيما بينهم وأيضاً فيما بين الأقوام الأخرى. هنا نجد الأهمية الكبيرة التي يوليها الاسلام الى العالم المتبحّر في السياسة ليكون المؤهل لشغل المناصب القيادية في الدولة والمجتمع.
جاء في الحديث الشريف عن سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) أنه قال: (إنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه).
لكن؛ ما المقصود من (العلماء بالله)؟ هل هم أولئك العلماء المتخرجون من الحوزات العلمية والذين يدرسون العلوم الدينية مثل الفقه وأصوله والمنطق واللغة العربية وعلم الرجال والتفسير وغيرها؟
الظاهر من الحديث الشريف أن (العلماء بالله)، هم العلماء الذين يتصلون بالله سبحانه وتعالى عبر الالتزام الكامل بقيم الشريعة، ويستمدون منه العون عبر التقوى والزهد، ويكون علمهم في خط تحقيق الأهداف التي أمر بها الله جل شأنه. لكننا أمام إطلاق في كلمة (العلماء) وعدم تقييدها بنوع خاص من العلوم، إذ المراد من الحديث الشريف إن على من يتصدى لإدارة جانب من أمور الناس أن يكون عالما بالقضايا التي يريد أن يديرها والتي تخص كيان الأمة ومصيرها، وفي نفس الوقت يكون عالماً ربانياً متصلاً بالسماء. أي أن تكون علومه ومعارفه في خدمة الانسانية وما يرضي الله وعباده، لا أن تتحول الى وسيلة للهيمنة والتجبّر واستغلال الآخرين ومصادرة حقوقهم.
هنا يتضج لنا مدى عقلانية الاسلام في تحديد شروط القائد والزعيم، بحيث تكون المعايير كلها واضحة أمامه، ولا حاجة لأن يكلّف نفسه التنظير والتشطير في وضع قوانين وأجراءات خاصة بحجة إضفاء المزيد من القوة والتماسك على نظام حكمه، و إنطلاقا من حديث الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن نصوص أخرى، نقول: إن القائد في المجتمع الإسلامي يجب أن يتمتع بنوعين من العلوم: الأول: ما يرتبط بواقع الحياة، الثاني: ما يرتبط بقيم الشريعة.
فالقائد الذي يتولى إدارة الشؤون السياسية في الأمة يجب أن يكون عالما بأمرين: بالسياسة وأبعادها، وكذلك بالدين وبأحكامه المرتبطة بالمجالات السياسية. كما ان القائد الذي يدير الإقتصاد، يجب أن يكون عالما بأمرين: بالإقتصاد وأبعاده، وكذلك بالدين وأحكامه في مجال الإقتصاد. وكذلك في حقل الإجتماع، وعلم النفس والتربية، وسائر الحقول الإنسانية والإجتماعية.
أما من يعرف القضايا السياسية فقط دون أن يعرف حكم الله في شؤون السياسة، فلا يحق له أن يقود الناس وأن ينصب نفسه حجّة عليهم، لأنه لا يعرف حكم الله في مجال السياسة. من هنا فإن من الواضح أن الذين يحكمون أكثر البلاد الإسلامية لا يُعدون من أولي الأمر، لأنهم بالأساس لا يعرفون أحكام الله. وعكس ذلك مرفوض أيضاً، فالقائد العارف بالعلوم الإسلامية، دون أن يعرف زمانه وما يجري حوله، فهذا هو الآخر لا يستطيع أن يقود الناس، لأن معرفة الأحكام الشرعية دون معرفة موارد تطبيقها، ومتغيرات الظروف الإجتماعية التي تتغير وفقها بعض الأحكام الشرعية، لا تنفع كثيراً في مجال العمل. وإننا نستلهم هذه المسألة مما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه) (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).
الفقه ومتغيرات العصر
ودور الفقه والفقهاء هو إستنباط أحكام الشريعة في (الحوادث الواقعة") أي فيما يشهده الزمان من تطورات وتغيّرات، وهذا الأمر يتطلب أن يكون الفقه منفتحاً على تطورات الزمن، والفقيه عارفاً بمتغيّرات العصر، لأن قيادة الأمة في عصر مليء بالمتغيرات تستلزم أن يكون القائد عارفاً - بشكل كامل ودقيق - بهذه المتغيّرات، وملمّاً - بشكل كامل ودقيق أيضاً - بحكم الشريعة فيها.
أما إذا لم يعرف الفقيه - القائد أحكام الشرع بالنسبة إلى متغيّرات الزمن، فإنه لا يستطيع أن يتصدى لقيادة المجتمع، لأن ضرورة القيادة تأتي من ضرورة تطبيق الدين، وتطبيق الدين يعني تطبيق القيم الإلهية على متغيِّرات الزمن. يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لكميل: (يا كميل: الدين لله تعالى، فلا يقبل الله تعالى من أحد القيام به إلا رسولا أو نبيا أو وصيا.. ياكميل! أرأيت لو لم يظهر نبيٌ، وكان في الأرض مؤمن تقي، أكان في دعائه إلى الله مخطئاً أو مُصيباً؟ بلى والله (كان) مُخطئاً حتى ينصبه الله عز وجل، ويؤهلّه له).
فالإنسان الواحد اذا لم يكن حجة بذاته ولم يكن متصلا بالوحي عن طريق نبي أو وصي، فإن عمله لن يكون صحيحا، لأنه عمل دون حجة وبلا إتباع للامام الشرعي، فلا يكون لله، ولن يرضى الله عنه. ومن دون الإمام لا نتمكن ان نتخذ القرارات الصحيحة في خضم متغيرات الزمن.
ومن هنا نقرأ في حديث الإمام السجاد (عليه السلام)في وصفه لأهل العقل والفقه الذين يجب على العامة إتباعهم: (عارفا بأهل زمانه). ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس). ذلك لأن الأحكام تتغير وفق متغيرات الزمان، ولكن في إطار القيم الثابتة، فنرى مثلا أن الإمام علي (عليه السلام) يجلس في بيته بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مرغماً على ذلك طوال ربع قرن، ولكنه يتسلم زمام الأمور حينما يتطلب منه الأمر ذلك، فيخوض المعارك، ويقتحم الصفوف، ويذيق أعداء الدين الويل.
وهكذا الإمام الحسن عليه السلام، حيث حمل السيف ضد جيش الشام في الفترة الأولى من إمامته، ولكن حينما تطلّبت المصلحة العامة أن يصالح معاوية، يفعل ذلك. وحينما يتطلب الظرف الثورة على الظالمين وتقديم أكبر التضحيات في سبيل فضح حكم بني أمية، الذين لو تُركوا وشأنهم لمسخوا الإسلام الحق وبدلوه بمجموعة أباطيل لا تخدم إلا جورهم وفسادهم، نرى أن الإمام الحسين (عليه السلام)لا يتوانى في ذلك، فيقدم نفسه وأهل بيته وأصحابه قرابين في سبيل الله. وهكذا بقية الأئمة المعصومين، فقد كانوا جميعا كانوا في طريق الحق، ولكن الزمان كان يختلف، لذلك اختلفت قراراتهم السياسية.
إن القائد السياسي الذي لا يعرف من أحكام الدين في السياسة شيئا، لا يكفيه أن يقرأ كتابا في أحكام السياسة الإسلامية، لأنه لا يستطيع أن يطبق ما في هذا الكتاب على ظواهر السياسية المتغيرة، بل ينبغي أن يكون هو شخصياً عالماً بفقه السياسة وأحكام الشريعة. وكذلك لا يكفي عالم الدين ان يأخذ بنظر المستشارين في القضايا السياسية حتى يستطيع قيادة الوضع السياسي للأمة وفق أحكام الشريعة، وانما يجب أن يكون هو عالما بالسياسة وملماً بمتغيرات الحياة وتطوراتها.
إن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان العقل ليفهم به الحقائق، وأعطاه القرآن ليقرأه وليتدبر فيه ويستخرج منه المنهج الرباني للحياة، ثم ينظر هل إن هذا المنهج أو ذاك يتناسب مع آيات الذكر ام لا. وحينما يقول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) في الحديث الشريف الذي تلوناه: (إنهم حجتي علكيم وأنا حجة الله عليهم).
فهذا يعني أن العلماء إنما هم استمرار لخط الأئمة، الذين علمونا أن السياسة ليست شيئا يختلف عن الدين وإنما هي من صميمه، والاّ لجاز للحسين (عليه السلام)أن يلجأ إلى جبل ويعبد الله فيه ولا يتدخل في الشؤون السياسية.
المطلوب: القضاء على الإنفصام
إن للقضية وجهاً أخر وهو أن طلبة العلوم الدينية، يجب أن يلتقوا مع طلبة العلوم الحديثة في خط واحد. فيصبح العالم بالسياسة عالما بالدين، والعالم بالدين عالما بالسياسة. إننا يجب أن نقضي وإلى الأبد على الإنفصام الذي أوجده التخلف والإستعمار في بلادنا.. فالتخلف أبعدنا عن عصرنا، والإستعمار أبعدنا عن ديننا.
وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه من دون بذل جهود مكثفة، لأن هناك عوامل كثيرة تعمل على إبعاد علماء الدين وطلبة العلوم الدينية عن قضايا السياسة والإجتماع والإقتصاد، وعلى إبعاد طلبة العلوم الحديثة عن القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي.
إن تقدم الإسلام وانتصاره اليوم يحتاج إلى اولئك العلماء الذين يكون مدادهم افضل من دماء الشهداء، وهم العلماء الذين يرسمون بمدادهم حلولا لمشاكل الأمة بصورة جذرية وناجحة.
إن قطاعات كبيرة من الامة الإسلامية تعيش الآن في حالة انفصام، وفي حالة تفتت ذاتي، فالمهندس - مثلاً - لا يعرف من دينه الا كلمات قشرية، وكأن الدين لا يرتبط بمجال عمله، والطبيب يفكر بأن علمه وعمله بعيدان عن الدين، وبعض علماء الدين يزعم بأن السياسة ليست من الدين وهذه هي المأساة.
وإن من المستحيل لأمتنا أن تتقدم دون القضاء على هذه المأساة. فحضارة الأمة الإسلامية لا تتحقق إلا على يد علماء الدين المحيطين علماً بشؤون السياسة وإدارة الأمة.
الحضارة هي أن يقود المجتمع عالم الدين الملم بالسياسة وبعلوم العصر، لا رجل دين ينكر السياسة ومتطلبات إدارة الحياة، ولا رجل سياسة لا يعترف بالدين.
|
|